من المقولات السياسية حول الحرية «كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الحرية البريئة». عندما كنت عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر دعوت لعقد مؤتمر لحقوق الإنسان لأبناء محافظات الصعيد لأنهم مضطهدون ومهملون سياسياً واقتصادياً مقارنة بغيرهم من المصريين، واشترطت أن يكون المشاركون من رجال الشرطة والدين والقضاة ومن النساء والأقباط، باعتبار أن هذه القوى إما أنها تضطهد الإنسان ومن ثم تنتهك حقوقه، وإما أنها مسؤولة عن حماية هذه الحقوق، وإما أنها تحرض ضد أجهزة الأمن بدعوى حقوق الإنسان، وكأن أفراد الشرطة ليسوا من أبناء الشعب يسهرون على حمايته وراحته بغض النظر عن بعض التجاوزات التي يجب أن يعاقبوا عليها وفقاً للقانون.
للسيد المسيح عليه السلام حكمة بالغة يقول فيها لتلاميذه عندما أبدى بعضهم عدم رضا عن استماع السيد المسيح لإحدى العاهرات فقال «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر».
أما رجال الدين في عصرنا فهم عملة ذات وجهين، يرددون قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف)، وكثير منهم يفعل ذلك تحدياً لكلام الله ويقوم بالتحريض الضمني أو المستتر، وأذكر أن أحد القيادات الإسلامية في مصر عندما استطاع أن يتسلل من مخبئه ويذهب إلى ميدان رابعة العدوية وخطب في أتباعه دعاهم للعمل السلمي لمقاومة ما أسماه الانقلاب الظالم ضد الشرعية، وكانت هذه كلمات السر الملغومة، فانطلق أتباعه يرددون «سلمية سلمية» وقاموا بإلقاء المولوتوف على كثير من المواطنين في الشارع.
هذه السلمية المزعومة كانت كلمة السر الجهنمية بأن يقول الخطيب عكس ما يدعو إليه ويفهم أتباعه ذلك ومن ثم يتصرفون وفقاً له، والقرآن الكريم يعتبر هؤلاء من المنافقين، كذلك أحاديث الرسول الكريم الذي قال آيات المنافق ثلاث ذكر منها «إذا حدث كذب».
لو نظرنا لمعظم العنف الذي يحدث في بلادنا لوجدنا كثيراً من رجال الدين لهم القدح المعلي في إثارة الفتن والأحقاد والحض علي الكراهية وإراقة الدماء، حتى بين من ينتمون للدين الواحد، إذا كانوا ينتمون لطائفة غير طائفة رجل الدين، والذي ينطبق عليه قول الله تعالى (والفتنة أشد من القتل) (البقرة)، ولعل تفسير ذلك أن القتل ينصرف إلى شخص واحد أو عدد قليل من الأشخاص، أما الفتنة فهي توغر الصدور وينطلق الناس امتثالاً لهذه الدعوة في فتنة عمياء يقتل بعضهم بعضاً وتظهر حالات الثأر والعداء. ولعلنا نتذكر حرب داحس والغبراء كذلك الصراع الأبدي بين السنة والشيعة منذ مقتل الإمام الحسين، وبهذا تنبأ الرسول الكريم محذراً أصحابه (أخشى عليكم أن تعودوا من بعدي كفاراً يمسك بعضكم برقاب بعض).
ويبدو أن المسلمين الأوائل كانوا أكثر وعياً وحنكة، واستطاعوا كبح جماح غضبهم وحصر الخلاف بينهم في إطار السجال السياسي أو الديني أو الفكري أو الاجتهادات، أما المسلمون في عصرنا هذا فإن طموحاتهم أصبحت عمياء، كل يفسر الدين والسياسة على مزاجه وبما يتماشى مع مصالحه، ومن ثم ينطبق عليهم قول الرسول الكريم لأحد أصحابه «إنك امرؤ فيك جاهلية»، والقرآن الكريم يقول (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (الحجرات).
نحن الآن أصبحنا نتقاتل حول ما يسمى بالفرقة الناجية، والتي لا يعلمها إلا الله، ونحن نتقاتل باسم الدين عما حدث منذ مئات السنين، كما نتقاتل باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كما سبق وتقاتل ابنا آدم، وليس هناك من هو أحسن من التقاتل باسم الدين أو الحرية أو الديمقراطية، ولو فهمنا هذه المبادئ على حقيقتها وكيف يمارسها أهلها لشعرنا بالخجل والعار لجهلنا، فالدين يدعو للتصالح والصفح والعفو، ولنا في سلوك النبي نموذج وقدوة، كما أكد ذلك الله في محكم كتابه (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (الأحزاب)، لذلك أكد الصفح عند المقدرة، وهذه هي العدالة الانتقالية الصحيحة، وليست العدالة الانتقامية البدائية.
الخلاصة يمكننا أن نبرز الملاحظات الخمس التالية:
الأولى؛ إن أجهزة الأمن وفي مقدمتها الشرطة تتحمل مسؤولية كبيرة بالنسبة للأمن الداخلي في أية دولة، ومن المنطقي وفقاً للنظرية التقليدية في أنظمة الحكم أن تحظى باهتمام ورعاية خاصة حتى تستطيع أن تؤدي المهام المسندة إليها.
الثانية؛ هي أن أية دولة بدون أمن فلا تعد دولة ذات كيان حقيقي، بل تتحول إلى حالة من الفوضى تحكمها شريعة الغاب والنظريات الفوضوية الساعية لهدم الدولة، والتي ظهرت في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، حيث ركزت على تدمير المؤسسات وفي مقدمتها مؤسسة الأمن، وكذلك النظريات الفوضوية الحديثة مثل نظرية «الفوضى الخلاقة» في منطقة الشرق الأوسط، والتي تسعى لنفس الغرض، لذلك تهاجم الأمن.
الثالثة؛ إنه في حالة القلاقل والاضطرابات تزداد مسؤولية أجهزة الأمن، وهذا يجعلهم مستهدفين، ومن ثم من الضروري توفير الحماية القانونية والمادية لهم لمواجهة تزايد معدل الجريمة ومعدل الإرهاب في مختلف الدول.
الرابعة؛ الموقف غير العقلاني وغير الواقعي لبعض رجال الدين الذين يهاجمون قوات الأمن ويحرضون ضدهم الجماهير، كما لو كانوا في حالة عداء معهم، في حين إن غياب الأمن سيترك أية دولة في حالة من الفوضى، ومن ثم فإن رجال الدين العقلانيين المؤمنين بأوطانهم وجب عليهم نشر احترام قوات الأمن وحمايتها ومساندتها ضد العناصر الإرهابية والفوضوية.
الخامسة؛ إن مهمة الأمن الأولى هي حماية المواطن في حياته ضد من يسعى للاعتداء عليه، وهذا يستلزم تطوير القوانين التي تعطيه الصلاحيات الضرورية لأداء مهامه، كما يستلزم تطوير نظرة المجتمع لرجال الأمن باعتبارهم مواطنين مثله يؤدون مهام خاصة بالمجتمع ككل وبأفراده، وينبغي مساندتهم لأداء هذه المهمة، ومن هنا ظهرت الشرطة المجتمعية لكي تكون أداة مساعدة للشرطة الرسمية المهنية.