منذ انطلاقتها وهي تستحق الدراسة فعلاً.. إنها تجربة الإسلام السياسي في تركيا. فنجاح حزب رجب طيب أردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة، أو على الأقل عدم هزيمته في ظل حملة التشويه الواسعة التي رافقت الانتخابات، شكل حدثاً يستحق الدراسة والتحليل بموضوعية وعقلانية، دون الوقوع في المبالغة «العربية» في قراءة الحدث، كالانجراف خلف الشعارات العاطفية مثل أن جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة باعتبار أردوغان يمثل «الحق». أو الانسياق خلف التبريرات الانفعالية بأن أردوغان اختطف مقدرات الدولة التركية وجعلها تحت خدمة حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات، باعتبار أردوغان يمثل «المؤامرة». بدأ أردوغان مع أستاذه نجم الدين أربكان العمل السياسي في حزبهم الذي تغير اسمه مراراً وانتهى إلى حزب «العدالة والتنمية» بالعمل الاجتماعي الخيري، ثم بالعمل البلدي الذي حقق إنجازات حقيقية، فحين كان أردوغان عمدة بلدية اسطنبول عام 1994 عمل على تطوير البنية التحتية للمدينة وإنشاء السدود ومعامل تحلية المياه وقام بتطوير أنظمة المواصلات وتمكن أرودغان من تسديد ديون مدينة إسطنبول وتحويلها إلى معلم سياحي كبير. واستمرت إنجازات أردوغان في تطوير الاقتصاد التركي ورفع مستويات التنمية فيها وتعزيز السياحة إليها حتى حين صار رئيساً للوزراء. وحين وصل أردوغان إلى الأغلبية البرلمانية وإلى رئاسة الحكومة لم يطالب بإسقاط حكم العسكر ولم يزدرِ الجيش التركي الذي انقلب على الحكم عام 1980، وألغى العمل الحزبي وتسلط على الحكم سنوات طويلة باسم حماية «علمانية» الدولة. كما لم يطالب أردوغان بتطهير القضاء الذي سجن أستاذه نجم الدين أربكان، ولم يسعَ إلى الانقلاب على المحكمة الدستورية التي حلت كل حزب انتمى إليه بحجة ممارسة نشاطات إيديولوجية معادية للعلمانية. ولم يتخذ أردوغان أية إجراءات تحجر على الحريات العامة باسم محاربة الفساد الأخلاقي، وظل وفياً لعلمانية تركيا معترفاً بالأتاتوركية ودورها في بناء تركيا الحديثة. صحيح أن أردوغان اتخذ إجراءات خاصة مع بعض جنرالات الجيش وسمح بارتداء الحجاب في الجامعات ومحلات العمل، لكن دون أن يرفع شعاراً يمس بنية الدولة المدنية في تركيا ودون أن يضر بسلامة مؤسساتها وهيبة نظامها العلماني القاسي!!
وفي الانتخابات البلدية الأخيرة ركز أردوغان على إنجازات حزبه وعلى مشروعاته القادمة وانطلاقها من خدمة الشعب التركي وتحقيق مصلحته ورفع مستواه الاقتصادي وجلب أكبر قدر ممكن من مصادر التمويل لتركيا. وواجه الحملات المضادة له التي تحدثت عن فساد حزبه وأسرته بالحديث عن المؤامرة الخارجية والتخطيط للانقلاب على مكتسبات تركيا في السنوات الأخيرة. ولم يتكلم عن حرب تدبر ضد الإسلام ومعاداة علمانية وليبرالية للإسلاميين. ويبدو أن أردوغان وحزبه كانوا يدركون مزاج الشعب التركي غير المسيّس وغير العابئ بالخلافات السياسية والسجالات الحزبية حتى لو كانت النتيجة حجب موقعي «تويتر» و«يوتيوب»!!
أما حين اتجه أردوغان إلى العالم العربي فقد عبر عن نفسه باعتباره حفيد السلاطين العثمانيين الذين لفظتهم الأتاتوركية وصنف نفسه بأنه زعيم سني في مقابل الملالي الشيعية!!
وتدخل في شؤون الدول العربية وحرض على الجيش المصري وانحاز بشكل سافر لجماعة «الإخوان» الإيديولوجية في صراعها مع باقي المكونات على السلطة. وجعل من تركيا ممراً للجماعات المتشددة العابرة إلى سوريا ومقرا لتدريب الجيش الحر وشجع الشعب السوري في الثورة على حكومته، وأشعل القضية الطائفية في سوريا، في تجاوز سافر للعلاقات الدولية. ولذلك خسر أردوغان قدراً كبيراً من شعبيته التي بلغت أوجها في العالم العربي، وظن بعض العرب أن سلوكه في العالم العربي سيؤثر على وضعه في تركيا وسيؤدي إلى سقوطه. بينما وصل الأمر ببعض العرب الآخرين إلى أن يجاهروا بأنهم صلوا ركعتي شكر لله بفوز أردوغان في الانتخابات البلدية مثلما صرح الشيخ يوسف القرضاوي.
هكذا قرأ أردوغان العقلية العربية: إنها عقلية انفعالية في معالجة قضاياها وفي النظر إلى قضايا الآخرين. لذلك كانت ممارسة أردوغان السياسية تقوم على منتهى الاتزان في معالجة قضايا تركيا ومنتهى التطرف في تحقيق مصالحه الإديولوجية في البلدان العربية!!