قبل نحو 20 عاماً، كتبت مقالاً بعنوان «أيام العراق حبلى.. أي وليد ننتظر؟»، وكان هذا بعد تركي المناطق المسيطر عليها من قبل النظام السابق سيراً على الأقدام، في رحلة استغرقت 30 ساعة، في ظروف غاية في الصعوبة تخللتها مخاطر كبيرة، ولم يعلم بالرحلة غير الله ومن رافقني. فكان الوليد جيلاً من شباب العراق تحمل مسيرة عناء شديد، قبل أن تكتب عليه مرحلة عنف قل مثيلها، وأعظم ما في العراق أنه حافظ على وجوده بعد التغيير، رغم تعرضه لأسوأ موجة تآمر خارجي و»داخلي»، وثبت أنه الأقوى ويمكن المراهنة على بقائه.
قبل 20 عاماً كان الراتب الشهري «لجنرال بامتيازات خاصة» 15 دولاراً، ويتقاضى المعلم دولاراً واحداً شهرياً، ولم يتجاوز راتب الجندي البسيط أجرة النقل إلى وحدته العسكرية، وإن غاب مضطراً «تقطع أذنه». أما الآن، فراتب المعلم والجندي قد تضاعف «600-1000» مرة، وهذا تطور كبير يعد مؤشراً يقود إلى استنتاجات إيجابية لا يمكن تجاهلها. غير أن الأهم من هذا هو تعاظم الشعور الفردي بالمواطنة على حساب التوصيفات المتخلفة، وعندما يتعاظم الشعور بالوحدة والمواطنة الصادقة تتبلور أسس التغيير نحو الأفضل حتى لو تطلب الحال وقتاً أطول مما يفترض، وفقاً للقياسات المنطقية والآمال التي عقدها العراقيون على من عملوا من أجل الخلاص الوطني تحديداً.
وتعود أيام العراق لتوصف بـ«الحبلى» من جديد، فالموازنة السنوية أصبحت موضع سجال في ظل مبدأ التوافق، الذي تحولت النوايا الطيبة فيه إلى معرقلات وقيود أثقلت هموم الدولة وعموم الناس على حد سواء، وبدل المبادرات الإيجابية لحل الخلافات والاختلافات -بما في ذلك «بعض» النشاطات المسلحة المناوئة- ظهرت حالة من التشفي على حساب الطبقات المتضررة، أو هكذا تحولت إلى غاية ووسيلة لبعض السياسيين، بينما يفترض الفصل والتمييز بين المناورات السياسية ومصالح الأمة. ففي أوقات الأزمات يفترض إعطاء الأسبقية لوضع الحلول للمعضلات دون مماطلات، لأن التأخير يسبب عقداً تضيف إشكالات ومصاعب أكثر خطورة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يصعب التكهن بخلاصة المؤديات، ومن المبكر معرفة الصورة النهائية للمرحلة المقبلة، غير أن المؤشرات تدل على أن كتلة «دولة القانون» بزعامة المالكي وحلفاءها ستحصد الرقم الأعلى من مقاعد البرلمان، تليها كتلة «المواطن» بزعامة الحكيم، وكتلة «الأحرار» الموالية للصدر، ثم تأتي متفرقات كتلة «التحالف الكردستاني» ومتفرقات كتلة «العراقية». لتبدأ المرحلة الأكثر عسراً وتعقيداً التي تتطلب توافقاً واسعاً. ولم يعد الأكراد عنصر التأثير الأقوى في المعادلة، فالفشل في تشكيل حكومة الإقليم بعد مرور نحو سبعة أشهر على الانتخابات المحلية، سينعكس بالتأكيد على وحدة الموقف الكردي في البرلمان المركزي، فكتلة «التغيير» الكردية المعارضة متمسكة بمواقف يصعب قبولها من قبل رئاسة الإقليم، التي ستحصل على أعلى نسبة من أصوات النواب الأكراد. وما كان معتاداً مشاهدته في السابق من خلافات كردية في الإقليم وتوافق واتفاق كردي في بغداد لم يعد سهلاً تكراره.
ومع أن «التحالف الشيعي» قد تفكك عملياً في المرحلة الحالية، فالإجماع لايزال قائماً على بقاء منصب رئيس الوزراء شيعياً، وهو ما يجعل المنافسة على الأغلب بين رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي وبين كتلة «المواطن». وهي منافسة ستكون معقدة على المستوى العام، ومن المستبعد أن يخضع أي من الطرفين لضغوط إيرانية مفترضة، وتبقى تأثيرات الضغوط متوقعة على أطراف أخرى لمحاولة تغيير المعادلات، التي يصعب التحكم بها كلياً بسبب الخلافات بين الكتل الأخرى، وستظهر أسماء متداولة أخرى على خط المنافسة.
الكتلة «العراقية» كانت أقوى تأثيراً وشعبية عندما قبلت مكوناتها الحزبية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، إلا أنها أصبحت ضعيفة ومفككة بعد أن تنازعت على الزعامات، التي لم تستطع أصلاً أن تحقق شيئاً يستحق الذكر لناخبيها. كما إن التنكر لعلاوي يضفي على الكتلة صبغة طائفية مبنية على مشاريع الأقلمة، التي بات التعويل عليها كالسعي وراء سراب، بعد حالة الاقتتال العشائري في الأنبار، وتخلخل الوضع الأمني في محافظة نينوى.
ووفق هذا الوصف الموجز للمعضلة، ستواصل الحكومة الحالية برئاسة المالكي أعمالها لفترة طويلة، أما مداولات تشكيل الحكومة الجديدة فلتشخيصها لابد من العودة إلى المفردات القروية، لاستعارة مقولة «جيب ليل وخذ عتابة».
* عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية