طلبوا مني أن أرتدي الرداء الأبيض فقط، ولا شيء غيره من الثياب، وأترك كل أشيائي، نظرت إلى المكان الذي سأدخله؛ لم أشعر بالخوف في البداية كثيراً، وظننت أن الأمر سيكون سهلاً.
بعد أن استلقيت ليدخلوني فيه انتابتني بعض المخاوف؛ ماذا لو دخلت إلى هذا المكان المظلم الموحش ولم يستطيعوا بعدها إخراجي منه بعد أن ينتهوا من التجربة؟ وضعوا فوق رأسي شيئاً أشبه بالخوذة، ثم ثبتوا رأسي بطرفين كانا يمسكان برأسي من جهتي أذنيّ بعد أن سدوهما بالقطن الأبيض، وقد طلبوا مني ألا أتحرك لمدة عشرين دقيقة، هي المدة التي علمت بأنني سأمكث فيها بالداخل.
وضعوا في يدي جرساً وطلبوا مني أن أضغط عليه إن أردت شيئاً، ثم خرجوا جميعهم وبقيت بالغرفة لوحدي كي أخضع لفحص في جهاز الأشعة للرنين المغناطيسي، وهو جهاز يحشر بداخله الجسم ويصدر أصواتاً مزعجة وتستغرق عملية الأشعة وقتاً لالتقاطها، فتحت عيني قليلاً فوجدت نفسي في مكان موحش، حاولت أن أحرّك رأسي فلم أستطع، شعرت أن هناك شيئاً يكتم علي من الرهبة والخوف؛ إلا أنني تحاملت على نفسي.
هنا راودني سؤال؛ لو حشرت يوماً هكذا دون أن يكون بيدي جرس منبه ودون أن أستطيع أن أستدعي أحداً؛ ماذا سيكون حالي؟ ثم فكرت في حال الذين لا يعرفون المساجد ولا الصلاة ويظلمون الناس والمصير الذي ينتظرهم في القبر، إن ألماً بسيطاً يجعل الشخص لا ينام بشكل مريح لمدة ساعة في سرير مريح، فكيف بسرير الآخرة الدائم؟ إن دخول جهاز الأشعة للرنين المغناطيسي يجعل الشخص يشعر بالاختناق لأنه محشور بالكامل بداخله؛ فكيف بمن يحشرون تحت التراب للأبد؟
من المتعارف عند عموم الناس أنه مع اقتراب شهر رمضان تزداد الوفيات، لذا تكثر دائماً عبارة «الله يبلغنا رمضان»، ومع ازدياد حالات الوفاة يطرأ على البال سؤال على شكل تأمل بشأن هذه الحياة التي نحن منشغلون فيها ومنغمسون في تفاصيل أيامها وأمورها، قد يكون تفكيرنا تصنيفه أننا نخطط لمرحلة قصيرة المدى وننسى الحياة التي تنتظرنا، فحياتنا الحالية ليست حياة خالدة، وقلة من يستوعبون هذا الأمر ويدركونه، وهم يعيشون أيامهم على مبادئ يرون أنها تصلح لزمننا الحالي كالنفاق والكذب والإساءة للآخرين وظلمهم، وهناك من هم منغمسون بشكل تام في أمور ليس لها أي رصيد من الحسنات؛ كالشرب والزنا وسرقة المال العام.
بعض الناس نجدهم مشغولين ببناء منزل العمر الذي لن تدوم حياتهم فيه أكثر من سبعين سنة في أحسن الأحوال ونسوا منازل الآخرة، وهناك من اهتم بجمع المال ونسي التصدّق لأجل جمع أرصدة حسنات الآخرة، وهناك من يطمح لنيل التشريف بالدنيا وغاب عن باله كلياً تشريف الآخرة.
لنتأمل من حولنا كم من شخص أحببناه وعشنا معه أجمل اللحظات واختطفته الحياة منا بشكل مفاجئ؟ هناك سؤال آخر قد لا يرد إلى ذهن الكثيرين؛ من منا يذكر جد جد جده ويدعو له بالمغفرة الآن؟ ففكرة هذا السؤال أن كثيراً مما يقوم به المرء اليوم قد لا يذكر بعد عشرات السنين، لكن قد يكون محفوظاً وله رصيد من الأجر للآخرة، لذا على الإنسان أن يتفكر دائماً في أعماله ويقيسها على مستوى بعيد ويفطن إلى أن القبر سيكون في النهاية مسكنه ولن تؤنسه فيه سوى أعماله الخيرة.
كم منا من فكر بأننا في حياتنا هذه نجسد قصة الأرنب الذي عبر من فتحة صغيرة من السور إلى الحقل العامر، فأكل فيه ما أكل، بما لذ وطاب من الثمار والأعشاب، وعندما هم أن يخرج من الفتحة وجدها ضيقة بعد أن سمن، وجد نفسه لا يستطيع أن يخرج إلا بعد أن ينحف، فخرج بعد أن ذهب ما أكله، وخرج كما دخل، لم يستفد شيئاً، وقد ذهبت متعة دقائق معدودة أكل فيها وتمتع بما أكله.
هكذا نحن؛ نلهث في حياتنا ونجمع المال والمناصب والأصدقاء والمعارف ونكسب الكثير والكثير، فإذا هممنا أن نعبر من دار الدنيا إلى الآخرة وجدنا أنفسنا وقد تركنا كل ما بأيدينا ولم نرحل إلا كما ولدنا، ذهب ما كدسناه وأضعنا أوقاتنا في جمعه.
لو عينت قاضية ولو ليوم؛ لأمرت مع كل عقوبة لكل مجرم وفاسق وظالم أن يحشر في هذه الآلة لعدة ساعات، أو يحشر في قبر ضيق ويترك له متنفس ويتفكر في ما فعله قليلاً لعله يعقل، ولا أظن أنه بعدما سيراه سيعيد ما فعله، وليت أحد قضاتنا يأخذ بذلك ويصدر أحكاماً تتناسب مع هذا الجيل الذي بات شبابه لا يشعرون ولا يتخيلون ما ينتظرهم. كان الربيع بن خثيم رحمه الله قد حفر في داره قبراً، فكان إذا وجد في قلبه قسوة دخل فيه فاضطجع ثم يصرخ «رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت» ثم يرد على نفسه: «يا ربيع قد رجعت فاعمل».
إنك تنفق الكثير من المال يومياً فتفكر في المال الذي تصرفه بين يديك، اخصم منه 100 فلس لا أكثر، اشترِ بها ماء بارداً وأهده إلى أحد العمال المارّين بالشارع وقل في نفسك ربي اجعلها صدقه عن نفسي وعن أهلي وعن كل من اغتبتهم وظلمتهم، ضع في غرفتك حصالة وارمِ فيها 25 فلساً فقط، 25 فلساً يومياً أو حتى أسبوعياً، وبعد عدة أشهر أو حتى سنوات خذ ما تجمع لك من مال وساهم به في بناء مسجد أو ماء سبيل أو أحد مشاريع الصدقات الجارية، اجعل لك صدقات جارية في كل مكان؛ اكفل يتيماً، وكفالة اليتيم أقلها قدره عشرة دنانير في البحرين، لكي تصاحب خير الخلق رسولنا الأمين في الجنة، هذه النقود القليلة، وما ستأتي لك به من حسنات غداً وأنت في أول منازل الآخرة وهو القبر، ستحتاجها بشدة إلى جانب أعمالك التي لها مكاسب بالآخرة قبل الدنيا.
- إحساس ديني..
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة»، كما قال: «إن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه».
{{ article.visit_count }}
بعد أن استلقيت ليدخلوني فيه انتابتني بعض المخاوف؛ ماذا لو دخلت إلى هذا المكان المظلم الموحش ولم يستطيعوا بعدها إخراجي منه بعد أن ينتهوا من التجربة؟ وضعوا فوق رأسي شيئاً أشبه بالخوذة، ثم ثبتوا رأسي بطرفين كانا يمسكان برأسي من جهتي أذنيّ بعد أن سدوهما بالقطن الأبيض، وقد طلبوا مني ألا أتحرك لمدة عشرين دقيقة، هي المدة التي علمت بأنني سأمكث فيها بالداخل.
وضعوا في يدي جرساً وطلبوا مني أن أضغط عليه إن أردت شيئاً، ثم خرجوا جميعهم وبقيت بالغرفة لوحدي كي أخضع لفحص في جهاز الأشعة للرنين المغناطيسي، وهو جهاز يحشر بداخله الجسم ويصدر أصواتاً مزعجة وتستغرق عملية الأشعة وقتاً لالتقاطها، فتحت عيني قليلاً فوجدت نفسي في مكان موحش، حاولت أن أحرّك رأسي فلم أستطع، شعرت أن هناك شيئاً يكتم علي من الرهبة والخوف؛ إلا أنني تحاملت على نفسي.
هنا راودني سؤال؛ لو حشرت يوماً هكذا دون أن يكون بيدي جرس منبه ودون أن أستطيع أن أستدعي أحداً؛ ماذا سيكون حالي؟ ثم فكرت في حال الذين لا يعرفون المساجد ولا الصلاة ويظلمون الناس والمصير الذي ينتظرهم في القبر، إن ألماً بسيطاً يجعل الشخص لا ينام بشكل مريح لمدة ساعة في سرير مريح، فكيف بسرير الآخرة الدائم؟ إن دخول جهاز الأشعة للرنين المغناطيسي يجعل الشخص يشعر بالاختناق لأنه محشور بالكامل بداخله؛ فكيف بمن يحشرون تحت التراب للأبد؟
من المتعارف عند عموم الناس أنه مع اقتراب شهر رمضان تزداد الوفيات، لذا تكثر دائماً عبارة «الله يبلغنا رمضان»، ومع ازدياد حالات الوفاة يطرأ على البال سؤال على شكل تأمل بشأن هذه الحياة التي نحن منشغلون فيها ومنغمسون في تفاصيل أيامها وأمورها، قد يكون تفكيرنا تصنيفه أننا نخطط لمرحلة قصيرة المدى وننسى الحياة التي تنتظرنا، فحياتنا الحالية ليست حياة خالدة، وقلة من يستوعبون هذا الأمر ويدركونه، وهم يعيشون أيامهم على مبادئ يرون أنها تصلح لزمننا الحالي كالنفاق والكذب والإساءة للآخرين وظلمهم، وهناك من هم منغمسون بشكل تام في أمور ليس لها أي رصيد من الحسنات؛ كالشرب والزنا وسرقة المال العام.
بعض الناس نجدهم مشغولين ببناء منزل العمر الذي لن تدوم حياتهم فيه أكثر من سبعين سنة في أحسن الأحوال ونسوا منازل الآخرة، وهناك من اهتم بجمع المال ونسي التصدّق لأجل جمع أرصدة حسنات الآخرة، وهناك من يطمح لنيل التشريف بالدنيا وغاب عن باله كلياً تشريف الآخرة.
لنتأمل من حولنا كم من شخص أحببناه وعشنا معه أجمل اللحظات واختطفته الحياة منا بشكل مفاجئ؟ هناك سؤال آخر قد لا يرد إلى ذهن الكثيرين؛ من منا يذكر جد جد جده ويدعو له بالمغفرة الآن؟ ففكرة هذا السؤال أن كثيراً مما يقوم به المرء اليوم قد لا يذكر بعد عشرات السنين، لكن قد يكون محفوظاً وله رصيد من الأجر للآخرة، لذا على الإنسان أن يتفكر دائماً في أعماله ويقيسها على مستوى بعيد ويفطن إلى أن القبر سيكون في النهاية مسكنه ولن تؤنسه فيه سوى أعماله الخيرة.
كم منا من فكر بأننا في حياتنا هذه نجسد قصة الأرنب الذي عبر من فتحة صغيرة من السور إلى الحقل العامر، فأكل فيه ما أكل، بما لذ وطاب من الثمار والأعشاب، وعندما هم أن يخرج من الفتحة وجدها ضيقة بعد أن سمن، وجد نفسه لا يستطيع أن يخرج إلا بعد أن ينحف، فخرج بعد أن ذهب ما أكله، وخرج كما دخل، لم يستفد شيئاً، وقد ذهبت متعة دقائق معدودة أكل فيها وتمتع بما أكله.
هكذا نحن؛ نلهث في حياتنا ونجمع المال والمناصب والأصدقاء والمعارف ونكسب الكثير والكثير، فإذا هممنا أن نعبر من دار الدنيا إلى الآخرة وجدنا أنفسنا وقد تركنا كل ما بأيدينا ولم نرحل إلا كما ولدنا، ذهب ما كدسناه وأضعنا أوقاتنا في جمعه.
لو عينت قاضية ولو ليوم؛ لأمرت مع كل عقوبة لكل مجرم وفاسق وظالم أن يحشر في هذه الآلة لعدة ساعات، أو يحشر في قبر ضيق ويترك له متنفس ويتفكر في ما فعله قليلاً لعله يعقل، ولا أظن أنه بعدما سيراه سيعيد ما فعله، وليت أحد قضاتنا يأخذ بذلك ويصدر أحكاماً تتناسب مع هذا الجيل الذي بات شبابه لا يشعرون ولا يتخيلون ما ينتظرهم. كان الربيع بن خثيم رحمه الله قد حفر في داره قبراً، فكان إذا وجد في قلبه قسوة دخل فيه فاضطجع ثم يصرخ «رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت» ثم يرد على نفسه: «يا ربيع قد رجعت فاعمل».
إنك تنفق الكثير من المال يومياً فتفكر في المال الذي تصرفه بين يديك، اخصم منه 100 فلس لا أكثر، اشترِ بها ماء بارداً وأهده إلى أحد العمال المارّين بالشارع وقل في نفسك ربي اجعلها صدقه عن نفسي وعن أهلي وعن كل من اغتبتهم وظلمتهم، ضع في غرفتك حصالة وارمِ فيها 25 فلساً فقط، 25 فلساً يومياً أو حتى أسبوعياً، وبعد عدة أشهر أو حتى سنوات خذ ما تجمع لك من مال وساهم به في بناء مسجد أو ماء سبيل أو أحد مشاريع الصدقات الجارية، اجعل لك صدقات جارية في كل مكان؛ اكفل يتيماً، وكفالة اليتيم أقلها قدره عشرة دنانير في البحرين، لكي تصاحب خير الخلق رسولنا الأمين في الجنة، هذه النقود القليلة، وما ستأتي لك به من حسنات غداً وأنت في أول منازل الآخرة وهو القبر، ستحتاجها بشدة إلى جانب أعمالك التي لها مكاسب بالآخرة قبل الدنيا.
- إحساس ديني..
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة»، كما قال: «إن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه».