كلنا يعتقد أن أموراً اعتدناها وأصبحت جزءاً من حياتنا اليومية بات من الصعب التخلص منها، لذلك نرى من وجهة نظر أحادية أن الدنيا ليس لها طعم من دون وجودها؛ بيد أنه لو تأملنا قليلاً لاكتشفنا أن الحياة ممكن أن تسير بشكل سلس وطبيعي، وأنه يمكننا أن نستسيغ طعمها الأصلي من دون إضافات تلوينية أو تشكيلية.
فكل منا له وجهة نظره في الأمور التي يمر بها وإن تقادمت أو أصبحت منتهية الصلاحية، لكن على المنقلب الآخر يحب أن ننظر للأمور التي حولنا عن بعد لسبب أنه كلما كانت النظرة قريبة كلما ضاق أفقها ولم يتمكن العقل من التفكير لإعطائه المساحة الكافية في الاختيار معتمداً على تحليلاته وقناعاته، وليس مجرد انصياع غوغاء لتوجهات طرف آخر. تماماً كالشخص الذي اعتاد تناول فنجان قهوته الصباحية على أنغام الموسيقى الفيروزية يتصفح الجريدة الورقية بأنامله الندية؛ معتبراً أنه إذا تخلف عن عادته اليومية سوف يخسر كنزاً من كنوز الأرض البهية.
وهذا مخالف تماماً لحقيقة ما اكتشفته من فترة وجيزة عندما سافرت برفقة عائلتي لمدة قصيرة لإحدى الدول العربية المجاورة، وجرت العادة أنه مهما طالت المسافة أو قصرت المدة الزمنية لإقامتي خارج حدود البلد، لابد ومن لحظة وصولي مطار البلد التي أقصدها أن أقوم بشراء خطاً هاتفياً وذلك كي أتفادى تقديم الكيكة الجميلة لشركة الهاتف من خلال التجوال الدولي للمكالمات، وفوق ذلك أن أكون متأكدة بأنني سأبقى على تواصل مع عائلتي وأيضاً الأهل والأقارب والأصحاب. كيف لا؛ ونحن باتت وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مسمياتها المفهومة والغير مقروءة جزءاً لا يتجزأ من يومنا؟!.
لكن بسبب انشغالي مع أطفالي نسيت العادة الدائمة لدي، ونسيت هاتفي أيضاً ولم أدر له أي اهتمام، وكانت تلك المرة الوحيدة التي أستمتع بالمناظر الجميلة على طول الطريق من المطار إلى الفندق، وعند المساء انتبهت بأنني لم أفتكر بهاتفي الذي من المفترض أن يكون رفيقي الدائم حتى في عز المواقف الحرجة، وأنه بانقطاعي عنه لم تتحول الأمور إلى كوارث كما أعتقد ويعتقد الجميع ولم أصب بدوار رأس وألم في المفاصل والمعدة وكل أمراض الدنيا بل العكس تماماً، لقد منحت نفسي قليلاً من الوقت لكي أستمتع بكل جزء صغير لأرى جماله الحقيقي. وقررت أن أقاطع أي سبب ممكن أن يحول بيني وبين لحظات سعيدة أمضيها برفقة أبنائي في تلك السفرة.
فكم من لحظات جميلة غفلنا عنها بالرغم من أنها تلوح بالقرب من جبهتنا، ولكن لا ندركها لأن رأسنا منخفض ونظرنا محصور وأيدينا مكبلة وتفكيرنا محدود وهدفنا اعتباطي. لابد من الوصل والتواصل، ولكن ما زاد عن حده قلب لضده، وسكر الحياة تحول لملحها، وبالبياض أصبح رمادياً.
فلنتأمل قليلاً؛ كم من الوقت هدرناه ونحن بجوار الأجهزة الإلكترونية ملتصقين وعن نعم الدنيا غافلين ولسماع مهاذير لا تودي ولا تجيب وقراءة كلمات ممكن أن ترسلنا إلى الجحيم وإشاعات ابتكرها المخربون.. حياة هاتفية بأيدينا اختلقناها وبأيدينا ممكن أن نمحوها وكي لا نكون سلبيين أقله نخصص لها جزءاً من وقتنا الثمين قبل أن تفتك بما تبقى من العمر الراحل السريع، فأوقاتنا قصيرة وأنفاسنا محدودة وأيامنا معدودة فلنستثمر هذه اللحظات والساعات بالخير.
ألست معي أن نقاطع الأمور التي تبعدنا عن عمل كل أمر جميل ممكن أن يضيف على زادنا وينفعنا يوم الدين؟
فلنتدبر معاً ما قاله هذا الحكيم، «من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه».