ركزت مؤخراً على تفاعلات الناس على بعض ما يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي، وكيـف يتقبل الناس مسائل «جديدة» علــى المجتمعات العربية لم تعتد عليها سابقاً، على رأسها النقد وكشف الأخطاء، وفي الوقت الذي تنتبه فيه لمساءلة تنامي الوعي لدى فئات وأفراد تكتشف أن البعض مازال ينصب لنفسه «تابو» أو يضع أمام ذاتـــه «خطوطاً حمراء» تمنعه حتى من الكلام.
لكن المشكلة لا تتوقف عند حد الكلام والتعبير، هي مرتبطة بطريقة الكلام وفحواه ومراميه، في مقابل ذلك هناك من يرى بأن مجرد الانتقاد يعني «التمرد» و«الانفلات» وإعــلان «حالة عصيان»، وكل هذه أمـــور تدخل في إطار النسبية في الحكم والتقييم، والأهم قبل ذلك تدخل في إطار المفهوم والمعتقد بشأن دور الإنسان المنحصر بين حقوقه وواجباته.
علينا أن ندرك أن هناك هامشاً «ليس بضئيل» وفي الواقع ليس «شعرة دقيقة» بين النقد البناء وبين النقد الهدام، بين الإخلاص للوطن وبين الانقلاب عليه، بين السعي والبحث عن الفضيلة والإصلاح وبين امتطاء شعارات الفضيلة والإصلاح لتكون سلماً باتجاه أهداف أخرى.
اليوم هناك ثلاث فئات من الناس، فئة أخذت اتجاه إعلان الاستياء على كل شيء حتى وإن كان جيداً فقط لأنه ليس على هواها ولأن من يقوم بهذه الأشياء سواء أكانت على شكل حراك مجتمعي أو سياسي لا يعجبها وتريد تغييره، بل تسعى لاستغلال كل وضع لإذكاء دعوات للانقلاب والاختطاف والإبدال. وهناك فئة ثانية تقف في المقابل تتصدى لهذه الممارسات التي تقوم على أساس «الحق المراد به باطلاً»، لكنها في نفس الوقت تمارس دورها في النقد والسعي للإصلاح والشد على الحراك الصحيح وانتقاد الحراك الخاطئ، في حين تقف فئة مازالت ترى في «الحياد» أو بالأصح «الصمت» هو التعبير الأمثل لإعلان الانتماء والولاء للوطن ورموزه.
الفئة الأولى هدامة كارهة لأوطانها لأنها تريد أن تحرق كل شيء، وتزيد عليه بنكران كل إيجابي وتحاول تشويه صورة أي منجز، بينما الفئة الثالثة تمارس دوراً سلبياً حتى على حساب نفسها سواء بالمطالبة بتحقيق الأفضل أو استخدام حقها في التعبير لانتقاد الأخطاء والسلبيات، والمشكلة أنها تؤثر على الفئة الثانية التي لا تزيد عنها في وطنيتها إلا بإعلان حبها للتصحيح ونقدها الصريح للأخطاء.
هناك من يرى كل منتقد للأوضاع الخاطئة على أنه «ممكن» للكاره والانقلابي فيما يسعى إليه، وهذه رؤية خاطئة تماماً، فبناء الأوطان وضمان استمراريتها لا يكون عبر «الصمت»، لا على من يريد الإضرار بها وفق أجندات خارجية وأهداف مسيئة، ولا على من يمارس الأخطاء ويكون سبباً في السلبيات ويتحول لعصى توضع في أي عجلة تنشد الدوران والتقدم لتعرقلها.
حينما تنتقد ممارسات خاطئة في الدولة وتطالب بتصحيحها، هل هذا يعني إعلان الانقلاب على النظام والدولة؟! طبعاً لا وألف لا، لكن الغريب أن هناك من يخرج لك وهو وطني ولا يزايد على وطنيته أحد ليفسر هذه الممارسة والتي هي حق من حقوق المواطن على أنها مناهضة للدولة وإساءة للحكومة. هذا مفهوم خاطئ تماماً، وهو مفهوم يناقض حتى دعوات رموز البلاد بشأن الإصلاح ومحاربة الفساد والأخطاء والشراكة الشعبية مع الدولة في نهضة البلد.
هذه الفئة للأسف تصنع لنفسها «خطوطاً حمراء» هي أصلاً غير موجودة، ولا حتى الدولة تطالب بها، بل الأخيرة لا تعتبرها إساءة لها ولحراكها، وإن كان كذلك فلماذا تلجأ الدولة نفسها لإنشاء -على سبيل المثال- ديوان للرقابة المالية، وتطلق خطوطاً ساخنة للتبليغ عن الفساد والتجاوزات، بل لماذا ينشأ برلمان أصلاً ويمنح أعضاءه صلاحية حتى إعلان عدم التعاون مع الحكومة أو حق طرح الثقة عن الوزراء وعزلهم؟!
العالم يتغير وإن كان البعض مازال يرى في الانتقاد جريمة فهو أصلاً يظلم نفسه ويسلبها من حقها المكفول دستورياً في التعبير وإبداء الرأي.
وهنا يبرز الفارق كما بينا، فهي ليست شعرة دقيقة تفصل الأمرين، بل خندق كبير، فارق بين من ينتقد حباً لوطنه وسعياً لإصلاح الأخطاء، وبين من ينتقد وهو كاره لهذا الوطن ساعياً لاستغلال هذه الأخطاء ليصور مسألة الانقلاب والتمرد والفوضى على أنها الحل الأمثل.
هذه مفاهيم خاطئة في زمن نرفع فيه شعارات الإصلاح ومحاربة الأخطاء، خطأ كبير جدا أن ترى الناس تمارس حقوقها أقلها في التعبير والانتقاد ثم تأتي لتقول لهم ببساطة أنتم تحرضون وتثيرون الشارع وتدعون للخروج على النظام والدولة.
تتطور الدولة حينما يدرك أفرادها معنى وجود حقوق ومعنى وجود واجبات، وحينما يعرفون كيف يفرقون بين المحاذير والأفخاخ التي تضر الوطن وبين المجالات التي هي أساس التصحيح والتي عليهم أن يخوضوا فيها.
من أراد العيش في «تابو» الخوف والقلق من الكلام بصراحة وشفافية فهو حر، لكنه لا يفترض به تمرير هذا الخوف والتوجس لغيره ممن يتفقون مع رؤية الدولة بأن النقد البناء والسعي للإصلاح هما الطريق الأمثل لصناعة وضع أفضل وتحقيق نهضة مبنية على أسس صحيحة تتجنب أخطاء كرسها الماضي.