نعود إلى شعار «الإسلام دين ودولة»، وإلى مقولة إنه «لا كهنوت في الإسلام». كلاهما يؤكد أن فصل الدين عن الدولة مناقض لروح الإسلام ونصوصه التأسيسية. هل هذا صحيح؟ أمام هذا التأكيد تبرز ثلاث نقاط تفرض نفسها فرضاً، وتتطلب التوقف عندها، والتأمل في دلالتها، وفي تبعاتها.
النقطة الأولى أن الشعار أطلقته حركة «الإخوان المسلمين» في القرن الـ20، ولم يقل به أحد قبل ذلك، وهو بذلك يمثل موقفاً ورؤية تخص «الإخوان»، كونه تنظيماً سياسياً له مرجعية دينية، وجزءاً من الصراع السياسي في مصر. والحقيقة أن جملة «الإسلام دين ودولة» مكثفة ومعبرة وتستجيب تطلعات المسلمين وأشواقهم. هي شعار ذكي وله جاذبية قوية، لكنه يبقى شعاراً سياسياً مؤدلجاً أكثر منه خلاصة لتحليل علمي للتاريخ الاجتماعي والسياسي للإسلام. وربما أن الأهم من ذلك أن تجربة «الإخوان» بعد ثورة 25 يناير في مصر تنسف هذا الشعار من أساسه، ذلك أنهم قبلوا بمفهوم الدولة المدنية، وبمرجعية الدستور، وبالفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة. وعملياً، فإن قبولهم بهذه المبادئ هو تخلٍ عن الشعار ومقتضياته، وقبول بما تؤسس له تلك المبادئ، وهو فصل الدين عن الدولة، وأن الإسلام دين، لكنه ليس دولة بالضرورة.
أما بالنسبة إلى عدم وجود كهنوت في الإسلام، فهو صحيح من حيث المبدأ والمنشأ. فالإسلام لم يتأسس، لا من الناحية المفهومية، ولا السياسية على مؤسسة دينية تشبه مؤسسة الكنيسة في المسيحية، بخاصة كنيسة روما، وبالتالي من المفترض أنه ليست في الإسلام طبقة كهنوتية تشبه طبقة الأكليروس في المسيحية، لكن الواقع أن عملية التقديس بدأت تتسرب في الثقافة الإسلامية في شكل تنازلي، واختلاف في الدرجة من الله إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فالصحابة، والتابعين، وأئمة المذاهب، وصولاً إلى كبار العلماء والفقهاء، كما أشار إلى ذلك عن حق الكاتب المصري جمال البنا. وبالتالي يمكن القول إن الإسلام لم يخلُ تماماً من طبقة كهنوتية، لكنها طبقة ظلت مبعثرة من دون مؤسسة مستقلة بها تنافس بها مؤسسة الدولة. والأرجح أن الإسلام لم يكن في حاجة إلى ذلك، لأنه - وعلى عكس ما حصل للمسيحية - ولد في مكة قبل أن تولد الدولة فيها.
من هنا كان الإسلام هو الذي أنشأ الدولة، بل هو الذي أتى معه بفكرة الدولة المركزية، وهي فكرة لم يعرفها العرب من قبل. وهي التي وضعت العرب للمرة الأولى على خريطة التاريخ العالمي. فهذه الفكرة محاطة بهالة الرسالة الجديدة، وعالميتها ستقوم على أساسها دولة امبراطورية كانت بداياتها الأولى على يد الخليفة الأول أبي بكر، ثم استكملها الخليفة الثاني عمر، ووصلت إلى ذروتها على يد الأمويين بعد ذلك، وستستمر هذه المسيرة لقرون طويلة لاحقة.
انطلاقاً من ذلك يكون السؤال، كما ختمت مقالة الأسبوع الماضي، عن هذه التجربة التاريخية الإسلامية. هل كان في أية مرحلة من مراحلها فصل بين الدين والدولة، أو أي شكل من أشكال الفصل، أم أنها كانت برمتها خلواً من ذلك تماماً؟ هذا سؤال لم يأخذ حقه من الاهتمام، بخاصة لدى العرب.
يجب أن نتذكر ابتداء بأن السؤال يضعنا مباشرة أمام تجربة ضخمة تاريخياً بكل المقاييس، عمرها أكثر من 1400 عام، وتغطي مساحات جغرافية انطلقت من الجزيرة العربية في جنوب غربي آسيا، ثم امتدت إلى أفريقيا وبقية آسيا وأجزاء من أوروبا. وفي هذا الإطار شهدت هذه التجربة عشرات بل مئات من الدول والامبراطوريات والإمارات والسلطنات، وتفاعلت كما تصادمت مع تجارب وثقافات ودول شعوب أخرى في كل قارات العالم تقريباً. بعبارة أخرى، التجربة السياسية الإسلامية طويلة ومركبة، بما يجعلها ليست من البساطة، بحيث يمكن أن تختزل في شعار سياسي، أو يعبر عنها برأي لا يأخذ هذا البعد التاريخي والاجتماعي والسياسي في الاعتبار. ولعل من الواضح، بالمعنى ذاته، أنه لا يمكن مقالة سيارة مثل هذه أن تفي هذا الموضوع حقه، لكن سنكتفي بها كما التي قبلها، وما سيأتي بعدها، بالإشارات الأولى التي ستكون نواة لبحث مطول أكثر شمولاً وقدرة على إيفاء الموضوع حقه.
يمكن تقسيم التاريخ الإسلامي في ما يتعلق بموضوعنا إلى ثلاث مراحل: دولة النبوة، ودولة الخلافة الراشدة، ثم ما بعد الخلافة الراشدة، أو المرحلة الثالثة. في المرحلتين الأولى والثانية تحقق أعلى مستوى ممكن من توحد الدين مع الدولة، وتجلى هذا في أن رجل الدين كان بالضرورة رئيس الدولة، وأن السابقة في الإسلام وصحبة النبي كانت شرطاً من شروط تولي رئاسة الدولة، وأن القضاء لم ينفصل كسلطة مستقلة عن سلطة الخلافة. في كل ذلك كان نشر الدين وما يرتبط به من متطلبات ومصالح من بين أهم أهداف الدولة، وإن لم يكن هدفها الوحيد. وما يؤكد ارتباط الدين بالدولة أن الأخيرة كانت بقياداتها هي المصدر الوحيد للمعارف الدينية الجديدة، من قرآن وتفسيرات وآراء ومقاييس للحكم والقضاء وضوابط للسلوك إلى غير ذلك، ومن ثم كان المجتمع - بما في ذلك وعي الناس - يعاد تشكيله داخل هذا الإطار، ومن الطبيعي أن النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) كان المصدر الأول والمرجع الأول في كل ذلك، أثناء حياته وبعد مماته.
تحمل هذه المؤشرات وغيرها معنى أن الدين الإسلامي كان المرتكز الأساس لبناء الدولة، والانتماء إليها وتولي دور فيها، وبالتالي كان أهم معيار يحكم العملية السياسية بكل جوانبها تقريباً للدولة الإسلامية في مرحلتيها الأولى والثانية. وهذا يفسر وفق ابن خلدون خلافة أبي بكر ثم عمر للنبي في رئاسة الدولة، على رغم أنهما كانا ينتميان إلى أضعف عصبيات قريش، ما يعني أن المجالين الديني والسياسي للدولة كانا متداخلين، مع أرجحية المجال الديني على السياسي.
في المرحلة الثالثة أو ما بعد الخلافة الراشدة سيتغير كل ذلك، ليس بمعنى أن الإسلام تراجع أو قلّت أهميته. على العكس، هذا لم يحصل. لكن تغير المرحلة امتد بتأثيراته وتداعياته إلى الآليات والعلاقات الاجتماعية والسياسية، وإلى معايير التحالف وتحديد المواقف، وإلى الرؤى بأبعادها الدينية والسياسية. ولم تسلم المصالح من موجات وعواصف التغيير هذه، وما ترتب على ذلك من تغير في المواقع والتحالفات أيضاً.
بعبارة أخرى، تغيرت العملية السياسية للدولة برمتها، وتغيرت الدولة ذاتها ومعها تغيرت طبيعة ووجهة العلاقة ما بين الدين من ناحية، وهذه الدولة في مرحلتها الثالثة من ناحية أخرى. وأشار الفقهاء إلى طبيعة هذا التغير بوصفهم الشهير المعروف للدولة الإسلامية التي نشأت بعد الخلافة الراشدة، بأنها «ملك عضوض».
ما الذي تغير تحديداً؟ من الواضح أن وصف الفقهاء للدولة الإسلامية في مرحلتها الثالثة ينطلق من مقارنتها بدولة الخلافة الراشدة. وهو وصف يشير بشكل مباشر إلى أن المعيار السياسي، والمصلحة السياسية تقدما على المعيار الديني في تولي الحكم، وفي تداول السلطة، بل في كل مناصب الدولة، بما في ذلك المناصب الدينية. واللافت في وصف الفقهاء أنهم سمّوا الدولة في مرحلتها الثالثة ملكاً، وليست خلافة، ووصفوا هذا الملك بـ «العضوض». فكون الدولة صارت ملكاً يعني أنها لم تعد خلافة، وأنها صارت ملكاً عضوضاً يعني أنها تخلت عن الشورى، كما عرفها المسلمون في عهد الشيخين.
ووفق ابن خلدون، هناك نوعان من الملك: ملك طبيعي، وهو «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة»، وملك سياسي، وهو «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار»، وكلاهما يختلف عن «الخلافة» التي هي «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية».
مؤدى كلام الفقهاء وابن خلدون ينطوي على نتيجتين: الأولى أن المجال السياسي للدولة بدأ مع الدولة الأموية يتميز بحدوده ومصالحه ومقاييسه بشكل واضح عن المجال الديني، والثانية أن الخلافة كما تبلورت في مرحلة الخلفاء الراشدين، بخاصة أبي بكر وعمر، هي المعيار الأساس الذي يمكن على أساسه قياس درجة الانفصال والاتحاد بين الدين والدولة في التاريخ الإسلامي.
عن جريدة «الحياة»
{{ article.visit_count }}
النقطة الأولى أن الشعار أطلقته حركة «الإخوان المسلمين» في القرن الـ20، ولم يقل به أحد قبل ذلك، وهو بذلك يمثل موقفاً ورؤية تخص «الإخوان»، كونه تنظيماً سياسياً له مرجعية دينية، وجزءاً من الصراع السياسي في مصر. والحقيقة أن جملة «الإسلام دين ودولة» مكثفة ومعبرة وتستجيب تطلعات المسلمين وأشواقهم. هي شعار ذكي وله جاذبية قوية، لكنه يبقى شعاراً سياسياً مؤدلجاً أكثر منه خلاصة لتحليل علمي للتاريخ الاجتماعي والسياسي للإسلام. وربما أن الأهم من ذلك أن تجربة «الإخوان» بعد ثورة 25 يناير في مصر تنسف هذا الشعار من أساسه، ذلك أنهم قبلوا بمفهوم الدولة المدنية، وبمرجعية الدستور، وبالفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة. وعملياً، فإن قبولهم بهذه المبادئ هو تخلٍ عن الشعار ومقتضياته، وقبول بما تؤسس له تلك المبادئ، وهو فصل الدين عن الدولة، وأن الإسلام دين، لكنه ليس دولة بالضرورة.
أما بالنسبة إلى عدم وجود كهنوت في الإسلام، فهو صحيح من حيث المبدأ والمنشأ. فالإسلام لم يتأسس، لا من الناحية المفهومية، ولا السياسية على مؤسسة دينية تشبه مؤسسة الكنيسة في المسيحية، بخاصة كنيسة روما، وبالتالي من المفترض أنه ليست في الإسلام طبقة كهنوتية تشبه طبقة الأكليروس في المسيحية، لكن الواقع أن عملية التقديس بدأت تتسرب في الثقافة الإسلامية في شكل تنازلي، واختلاف في الدرجة من الله إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فالصحابة، والتابعين، وأئمة المذاهب، وصولاً إلى كبار العلماء والفقهاء، كما أشار إلى ذلك عن حق الكاتب المصري جمال البنا. وبالتالي يمكن القول إن الإسلام لم يخلُ تماماً من طبقة كهنوتية، لكنها طبقة ظلت مبعثرة من دون مؤسسة مستقلة بها تنافس بها مؤسسة الدولة. والأرجح أن الإسلام لم يكن في حاجة إلى ذلك، لأنه - وعلى عكس ما حصل للمسيحية - ولد في مكة قبل أن تولد الدولة فيها.
من هنا كان الإسلام هو الذي أنشأ الدولة، بل هو الذي أتى معه بفكرة الدولة المركزية، وهي فكرة لم يعرفها العرب من قبل. وهي التي وضعت العرب للمرة الأولى على خريطة التاريخ العالمي. فهذه الفكرة محاطة بهالة الرسالة الجديدة، وعالميتها ستقوم على أساسها دولة امبراطورية كانت بداياتها الأولى على يد الخليفة الأول أبي بكر، ثم استكملها الخليفة الثاني عمر، ووصلت إلى ذروتها على يد الأمويين بعد ذلك، وستستمر هذه المسيرة لقرون طويلة لاحقة.
انطلاقاً من ذلك يكون السؤال، كما ختمت مقالة الأسبوع الماضي، عن هذه التجربة التاريخية الإسلامية. هل كان في أية مرحلة من مراحلها فصل بين الدين والدولة، أو أي شكل من أشكال الفصل، أم أنها كانت برمتها خلواً من ذلك تماماً؟ هذا سؤال لم يأخذ حقه من الاهتمام، بخاصة لدى العرب.
يجب أن نتذكر ابتداء بأن السؤال يضعنا مباشرة أمام تجربة ضخمة تاريخياً بكل المقاييس، عمرها أكثر من 1400 عام، وتغطي مساحات جغرافية انطلقت من الجزيرة العربية في جنوب غربي آسيا، ثم امتدت إلى أفريقيا وبقية آسيا وأجزاء من أوروبا. وفي هذا الإطار شهدت هذه التجربة عشرات بل مئات من الدول والامبراطوريات والإمارات والسلطنات، وتفاعلت كما تصادمت مع تجارب وثقافات ودول شعوب أخرى في كل قارات العالم تقريباً. بعبارة أخرى، التجربة السياسية الإسلامية طويلة ومركبة، بما يجعلها ليست من البساطة، بحيث يمكن أن تختزل في شعار سياسي، أو يعبر عنها برأي لا يأخذ هذا البعد التاريخي والاجتماعي والسياسي في الاعتبار. ولعل من الواضح، بالمعنى ذاته، أنه لا يمكن مقالة سيارة مثل هذه أن تفي هذا الموضوع حقه، لكن سنكتفي بها كما التي قبلها، وما سيأتي بعدها، بالإشارات الأولى التي ستكون نواة لبحث مطول أكثر شمولاً وقدرة على إيفاء الموضوع حقه.
يمكن تقسيم التاريخ الإسلامي في ما يتعلق بموضوعنا إلى ثلاث مراحل: دولة النبوة، ودولة الخلافة الراشدة، ثم ما بعد الخلافة الراشدة، أو المرحلة الثالثة. في المرحلتين الأولى والثانية تحقق أعلى مستوى ممكن من توحد الدين مع الدولة، وتجلى هذا في أن رجل الدين كان بالضرورة رئيس الدولة، وأن السابقة في الإسلام وصحبة النبي كانت شرطاً من شروط تولي رئاسة الدولة، وأن القضاء لم ينفصل كسلطة مستقلة عن سلطة الخلافة. في كل ذلك كان نشر الدين وما يرتبط به من متطلبات ومصالح من بين أهم أهداف الدولة، وإن لم يكن هدفها الوحيد. وما يؤكد ارتباط الدين بالدولة أن الأخيرة كانت بقياداتها هي المصدر الوحيد للمعارف الدينية الجديدة، من قرآن وتفسيرات وآراء ومقاييس للحكم والقضاء وضوابط للسلوك إلى غير ذلك، ومن ثم كان المجتمع - بما في ذلك وعي الناس - يعاد تشكيله داخل هذا الإطار، ومن الطبيعي أن النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) كان المصدر الأول والمرجع الأول في كل ذلك، أثناء حياته وبعد مماته.
تحمل هذه المؤشرات وغيرها معنى أن الدين الإسلامي كان المرتكز الأساس لبناء الدولة، والانتماء إليها وتولي دور فيها، وبالتالي كان أهم معيار يحكم العملية السياسية بكل جوانبها تقريباً للدولة الإسلامية في مرحلتيها الأولى والثانية. وهذا يفسر وفق ابن خلدون خلافة أبي بكر ثم عمر للنبي في رئاسة الدولة، على رغم أنهما كانا ينتميان إلى أضعف عصبيات قريش، ما يعني أن المجالين الديني والسياسي للدولة كانا متداخلين، مع أرجحية المجال الديني على السياسي.
في المرحلة الثالثة أو ما بعد الخلافة الراشدة سيتغير كل ذلك، ليس بمعنى أن الإسلام تراجع أو قلّت أهميته. على العكس، هذا لم يحصل. لكن تغير المرحلة امتد بتأثيراته وتداعياته إلى الآليات والعلاقات الاجتماعية والسياسية، وإلى معايير التحالف وتحديد المواقف، وإلى الرؤى بأبعادها الدينية والسياسية. ولم تسلم المصالح من موجات وعواصف التغيير هذه، وما ترتب على ذلك من تغير في المواقع والتحالفات أيضاً.
بعبارة أخرى، تغيرت العملية السياسية للدولة برمتها، وتغيرت الدولة ذاتها ومعها تغيرت طبيعة ووجهة العلاقة ما بين الدين من ناحية، وهذه الدولة في مرحلتها الثالثة من ناحية أخرى. وأشار الفقهاء إلى طبيعة هذا التغير بوصفهم الشهير المعروف للدولة الإسلامية التي نشأت بعد الخلافة الراشدة، بأنها «ملك عضوض».
ما الذي تغير تحديداً؟ من الواضح أن وصف الفقهاء للدولة الإسلامية في مرحلتها الثالثة ينطلق من مقارنتها بدولة الخلافة الراشدة. وهو وصف يشير بشكل مباشر إلى أن المعيار السياسي، والمصلحة السياسية تقدما على المعيار الديني في تولي الحكم، وفي تداول السلطة، بل في كل مناصب الدولة، بما في ذلك المناصب الدينية. واللافت في وصف الفقهاء أنهم سمّوا الدولة في مرحلتها الثالثة ملكاً، وليست خلافة، ووصفوا هذا الملك بـ «العضوض». فكون الدولة صارت ملكاً يعني أنها لم تعد خلافة، وأنها صارت ملكاً عضوضاً يعني أنها تخلت عن الشورى، كما عرفها المسلمون في عهد الشيخين.
ووفق ابن خلدون، هناك نوعان من الملك: ملك طبيعي، وهو «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة»، وملك سياسي، وهو «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار»، وكلاهما يختلف عن «الخلافة» التي هي «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية».
مؤدى كلام الفقهاء وابن خلدون ينطوي على نتيجتين: الأولى أن المجال السياسي للدولة بدأ مع الدولة الأموية يتميز بحدوده ومصالحه ومقاييسه بشكل واضح عن المجال الديني، والثانية أن الخلافة كما تبلورت في مرحلة الخلفاء الراشدين، بخاصة أبي بكر وعمر، هي المعيار الأساس الذي يمكن على أساسه قياس درجة الانفصال والاتحاد بين الدين والدولة في التاريخ الإسلامي.
عن جريدة «الحياة»