البعد الثاني في العلاقات بين الصين والبحرين، الذي انتهينا عنده أمس، هو زيارات رجال وسيدات الأعمال والوزراء المختصين بالموضوعات الاقتصادية والصناعية، ولقد سبقت العلاقات الاقتصادية بين البلدين العلاقات الدبلوماسية، وهذا يؤكد المفهوم التقليدي والذي مازال قائماً في العمل السياسي والإبداعي، أن الاقتصاد والثقافة يسبقان السياسة التي تأتي لتدعمهما وتقويمهما.
والتجارة بين الصين الحديثة والبحرين الحديثة بدأت بتصدير الألمنيوم للصين في السبعينات من القرن العشرين وهذا تجديد لعلاقة اقتصادية وتجارية قديمة ترجع للقرن السابع الميلادي، حيث ذهبت أول بعثة إسلامية للصين في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ونقلت التجارة كما نقلت العقيدة الإسلامية السمحة، وعاش عدد منها واندمجوا في المجتمع الصيني وتركوا شواهد قبورهم تدل عليهم.
ثم في عصر الدولة العباسية حيث كانت البحرين وعمان محطات هامة للتجارة الصينية مع الدولة العباسية، أما العلاقة الثقافية، فهي أكثر بعداً من التجارة والسياسة وأكثر ارتباطاً بالعلم والمعرفة، ولذلك يروي منسوباً للنبي صلى الله عليه وسلم قوله «اطلبوا العلم ولو في الصين»، أي مهما بعدت المسافة وعظمت الشقة فلابد من البحث عن العلم والمعرفة بشتى مجالاتها. وهذا لا عجب فيه فالإسلام كما جاء من عند الله تعالى بدأ بأية «اقرأ» والقرآن الكريم تضمن العديد من الآيات والسور الدالة على طلب العلم والمعرفة والتفكير، ويكفي أن نشير إلى تخصيص القرآن الكريم سورة كاملة باسم «القلم»، كما إنه يذكر أن آيات عديدة تدعو للتدبر والتفكر بأكثر من الآيات التي تدعو للملابس الرجالية أو النسائية والمظاهر الشكلية التي ترتبط بعادات الشعوب بأكثر من ارتباطها بالدين الإسلامي، الذي هو دين العقل ودين العلم ودين المعرفة، إنه دين ينتمي للمستقبل وليس للماضي، ولذلك لأعجب إن قدم علماء المسلمين أمثال الحسن بن الهيثم وابن سيناء والفارابي وابن خلدون وابن رشد نظرياتهم وإبداعاتهم والحمد لله لم تكن هناك بيروقراطية تحد من فكرهم وعلمهم وتحدد لهم وظائف ثابتة ودرجات يثبتون عليها بالمسامير وغيرها من أدوات التثبيت.
لقد انطلق هؤلاء العلماء والفلاسفة باستيعاب فكر وحضارة وفلسفة الصين والهند وفارس والإغريق والرومان ومصر وخاصة فلسفة مدرسة الإسكندرية الأفلاطونية الحديثة، وإن لم يتصلوا لعمق الفكر والابتكار المصري في علم التخطيط وفي البناء وخاصة حركة الشمس وغيرها من إبداعات الفكر المصري العريق، وقد أضاف العرب تطورات لما أخذوه من الحضارات الأخرى. ثم أخذها عنهم الأوروبيون الذين انطلقوا بها في عملية إبداعية تراكمية وتخلف الشرق الأوسط العربي الإسلامي لجمود الفكر والعقل وحجب الإبداع عندما ظهرت البيروقراطية في أسوأ مظاهرها، وسيطر الشكل على المضمون والمحتوى واضطهد العلماء وأحرقت مؤلفاتهم كما حدث مع ابن رشد وغيره.
البعد الثالث في علاقة الصين بالبحرين هو البعد الدبلوماسي؛ فالدبلوماسي هو رسول الحضارة والثقافة والعلم والإبداع وهو حامل مسك الحضارة من بلده إلى البلد المعتمد لديها، وهو أيضاً مسك الحضارة من البلد المعتمد بها أنه رسول السلام والتعاون، فإذا كان السفير نشيطاً متوقد الذهن كان ذلك دافعاً لتطور العلاقات نتيجة إبداعات السفير وحكمة القيادة التي بعثت به وأسندت إليه أو إليها مهمة تمثيلها، وكان من حسن حظ علاقات الصين والبحرين أنها اختارت نخبة من السفراء تميزوا كثيراً وأبدعوا، وشخصياً عاصرت كثيرين منهم؛ فأول سفير للصين في البحرين هو وانج شي تزاملنا معاً كمستشارين لوفدي مصر والصين في نيويورك في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وأبرز سفير للبحرين في الصين هو كريم الشكر تزاملنا أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في مواقع عديدة من نيويورك للصين، وعبرها في مؤتمرات عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي وغيرها من المحافل الدولية، وباقي سفراء الصين في البحرين وسفراء البحرين في الصين ربطتني بهم علاقات صداقة وتعاون وثيق، ولضيق المقام لا أستطيع أن أتحدث عن كل سفراء البحرين في الصين وسفراء الصين في البحرين، فكل واحد منهم أضاف لبنة أو لبنات للصرح الشامخ لهذه العلاقات وآفاقها.
لكن ثمة سفيراً لمست منه إبداعاً وتميزاً هو السفير لي تشين سفير الصين الحالي في المنامة، وبرزت إبداعاته في العديد من المواقف والمبادرات وتغلبه على البيروقراطية التي كبلت سفراء وعلماء عديدين. ولعل تعدد الاحتفاليات بذكرى مرور 25 عاماً كان له فضل السبق في بلورتها وتنفيذها، فكثيرة هي الأفكار التي يتحدث عنها الناس، وقليل من يحرصون على التنفيذ ويحققون التقدم وتنفيذ الفكرة أهم من التحدث عنها فالعمل هو الأساس، ولذلك يتحقق التقدم فدنج سياوبنج هذا العبقري الصيني هو رائد نهضة الصين الحديثة والذي حقق التنمية التي تشبه المعجزة.
وتجدر الإشارة بالندوة التي عقدها مجلس الشورى وافتتحها معالي علي صالح الصالح رئيس المجلس وقام بإعداد الندوة ومتابعتها ولجنته الشؤون الخارجية برئاسة الدكتور الشيخ خالد آل خليفة رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن، وهو أيضاً يترأس أيضاً جمعية الصداقة البحرينية الصينية في المجلس لقد كانت ندوة ممتازة ضمت نخبة من الأعضاء في مجلس الشورى البحريني والمؤتمر الاستشاري في الصين، والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، والخبراء والباحثين من مملكة البحرين والصين مما جعل النقاش عميقاً ومكثفاً وهذا يمثل إضافة فكرية نوعية للعلاقات.
تلك بعض التأملات حول ركائز وأسس علاقات دولتين تنتميان للحضارة العريقة في أرض الخلود وحضارة دلمون وفي أرض الفلسفة والحكمة والإنجاز في الصين، وكلاهما يحرص على التطلع للمستقبل مع التعلم من الماضي، وكما ذكرت في كتابي عن النظام السياسي في البحرين؛ فإن الإصلاح في إطار الهوية وفي دراساتي عن الصين أن مبدأ التناغم والتوافق في الفكر والعمل، في النظرية والتطبيق بين مكونات المجتمع، وقواه المتعددة والإبداعية وبين الدولة والدول الأخرى على المستوى العالمي هو الوسيلة للتقدم والرقي واحترام تاريخ وتراث الشعوب والتفاعل مع متطلبات العصــر.