يتناول كتاب «هوية مصر بين العرب والإسلام (1900-1930)» قضية بالغة الأهمية والحساسية في آن واحد، وتنبع الأهمية من تناوله لحقبة تاريخية في تكوين الدولة المصرية، ومن ثم فهو يعبر عن فكر مصر ومثقفيها وساستها في تلك المرحلة التي يمكن أن توصف بأنها مرحلة تكوين مفهوم الوطن في مصر.
الكتاب باللغة الإنجليزية من تأليف أستاذين أمريكي وإسرائيلي، وقام بترجمته الأستاذ بدر الرفاعي ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2013 ويقع بحوالي 450 صفحة، ويضم أحد عشر فصلاً مقسمة في ثلاثة أبواب الفصل الأول «المصريون والعثمانيون والعرب أثناء الحرب العالمية الأولى»، وتناول الولاء المصري للعثمانية، ومصر والثورة العربية (ثورة الشريف حسين) المزاج المصري الوطني الشعبي ويراه كان مزاجاً يميل للعثمانية، والخلافة والإسلام ويميل فريق منه للقومية القُطرية المصرية ولا يميل إلا قليلاً لمفهوم العرب والعروبة.
الفصل الثاني «ثورة 1919 وما أعقبها» يحلل الأفكار التي سادت في تلك الفترة من تمجيد القومية المصرية مقارنة بالنظرة للعثمانية، خاصة من الطبقة الوسطى، والدعوة للقومية العربية في الشام والمشرق العربي، وهو حظي باهتمام ضئيل من المصريين الذين ركزوا على مفهوم وحدة وادي النيل. والفصل الثالث «مصر ومسألة الخلافة 24-1926» حيث شهدت تلك الفترة إلغاء الخلافة العثمانية والدعوة لمؤتمر دولي إسلامي في القاهرة حول الخلافة.
الفصل الرابع «عقيدة القومية القُطرية المصرية»، ويذكر اقتباسات من مختلف التيارات الفكرية في مصر. أما الفصل الخامس «صورة العرب في المنظور القومي المصري» ويراها صورة سلبية مقابل الاهتمام بارتباط مصر بأوروبا. والفصول السادس والسابع «مصر من منظور العقيدة المصرية» حيث يتناول البيئة والأمة، التاريخ القُطري المصري، الفرعونية، السعي لخلق أدب مصري ويعد هذا الفصل من أخطر فصول الكتاب لأنه يسعى لدق أسافين ضد مفهوم الهوية العربية والإسلامية في مصر.
الفصلان العاشر والحادي عشر «العقيدة في التطبيق: مصر والعرب والشرق في العشرينات» يتناول ظهور مفهوم العروبة، ومفهوم الشرق ويعرض لما أسماه أطماع مصر الملكية في الجزيرة العربية وفي الشام وفلسطين، وهذان الفصلان أطلق عليهما رئيس جلسة المناقشة الدكتور خلف الميري أستاذ التاريخ ومنسق الندوات في معرض الكتاب أنهما بمثابة «السم في العسل»، ففي إطار عرضه لما أسماه الوطنية أو القومية المصرية سعى لضرب مفهوم العروبة وإبراز اهتمام مصر فقط بالسيطرة، وجعل ذاتها محور العرب، والسعي لتكون مقر الخلافة العربية بعد إلغاء الخلافة العثمانية ومحور الفكرة الشرقية إذا أمكن ذلك في إطار ثنائية الغرب والشرق.
نسوق عدداً من الملاحظات المهمة ذات الصلة. الأولى؛ إن المؤلفين يهوديان يتقنان اللغة العربية كما هو واضح من المراجع العديدة التي اعتمدا عليها، ليس فقط الكتابات التاريخية والسياسية، وإنما أيضاً الكتابات الأدبية والروايات ومن بينها روايات نجيب محفوظ التي تعد تسجيلاً لمصر ما قبل ثورة 1952 وأيضاً ما بعدها حتى الثمانينات. والكتاب رغم عمقه البحثي والتاريخي وإطاره التحليلي وكثره المعلومات فيه فإنه يثير التساؤل لأكثر من اعتبار منها توقيت النشر عام 1987، وهو الذكرى العاشرة لمبادرة السادات وزيارته للقدس وتوقيت الترجمة عام 2013 وهو الصراع المتجدد حول هوية مصر وأولوياتها السياسية بل وشخصيتها الوطنية وانتماءاتها العربية والإسلامية.
من هنا فإن الكتاب استهدف، بقصد أو بغير قصد، التشكيك في انتماء مصر العربي والإسلامي، مستدلاً على ذلك بما أسماه «المزاج الشعبي المصري»، وكذلك بالفعل الذي ركز على ما أطلق عليه مطامع مصر في إقامة خلافة عربية تكون هي محورها بعد إلغاء الخلافة العثمانية، فضلاً عن الإشارة لرفض مصر في العقد الثاني والثالث لمفهوم العروبة والصراع حول الانتماء الإسلامي وإبراز مفهوم انتماء مصر الفرعوني.
الثانية؛ أن الباحثين امتازا بالدقة في جمع المعلومات وكثرة المراجع، ولا يستبعد أن تكون تمت مساعدتهما بواسطة مراكز أبحاث إسرائيلية وحصلا على وثائق وكتابات منذ بداية القرن العشرين، وأوضح عدد من المعقبين في المناقشة أنه ليس من السهل على الباحثين المصريين الوصول إليها. والكتاب بحث علمي تاريخي هادف لخدمة أغراض سياسية، وهذا ليس غريباً ولا جديداً. فالباحث الأكاديمي برنارد لويس الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية والمستشار لكثير من الأجهزة السياسية والاستخباراتية الأمريكية هو باحث مدقق وأبحاثه هادفة عملياً للتشكيك في العرب وهويتهم وأوضاعهم، بل هناك مراكز أبحاث أمريكية وبريطانية يعمل بها باحثون عرب مشهورون وذوو علم وخبرة، ولكنها تُستخدم لأغراض وأهداف سياسية، وكثير من مراكز الأبحاث الأمريكية والغربية تخدم تلك الأغراض والسياسات.
ولو نظرنا لذلك في الإطار العلمي فإن هذا يعني الاستفادة من مراكز الأبحاث عند اتخاذ القرار، أما من المنظور القومي الخاص بنا فهو نشر أفكار معينة يراد الترويج لها، والتشكيك الفعلي في الهوية العربية والإسلامية للعرب وبث الروح والنزعة القُطرية، وهذا أكثر وضوحاً في خاتمة الكتاب التي حملت عنوان «انتصار العقيدة المصرية»، وكان الهدف واضحاً في هذا الفصل عميق الجذور وإبراز النزعات القطرية في مصر كما في الشام الفينيقية، وفي العراق الأشورية وفي الجزيرة العربية حيث النزاعات القبلية، وهكذا يتفتت العالم العربي بسهولة دون إطلاق قذيفة واحدة.
وبالنسبة للإسلام تثار قضية السنة والشيعة والمذاهب في كل طائفة، وهكذا يعود مفهوم الشعوبية مجدداً في صورة القرن الحادي والعشرين تحت اسم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والبحث عن التراث والهوية الذاتية لكل منطقة أو إقليم في كل دولة، وهكذا تعم الفوضى الخلاقة وروح الانقسام ويتم القضاء على المفاهيم الوحدوية المشتركة وعلى التراث المشترك وأيضاً تعزيز اللهجات المحلية وتطويرها لتصبح لغات مستقلة فتنعدم إحدى ركائز الوحدة أو القومية العربية والتراث العربي.
الثالثة؛ ترتبط بالوعي الوطني لدى قطاع كبير من المثقفين والأكاديميين المصريين، واتضح ذلك من النقاش في رفض المقولات الواردة في الكتاب والتشكيك في أهدافه، ولكن في نفس الوقت التحدث عن أهميته من منطلق معرفة كيف يفكر العدو، وكيف يمكن الرد عليه، وهذا ما طرحه الدكتور خلف الميري رئيس الندوة وأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر والعضو البارز في جمعية الدراسات التاريخية بمصر، كما اقترح عدد من الحاضرين سحب الكتاب من السوق؛ لكن هذا الرأي المتشدد لم يحظ بالقبول العام، وأعرب منظم الندوة وعدد من المشاركين عن أهمية معرفة كيف يفكر الآخرون؟ وكيف نتصرف معهم؟ ورفض مفهوم الانغلاق الفكري باعتبار أنه ينتمي لعصر ما قبل السماوات المفتوحة والحريات الإعلامية والأكاديمية.
مترجم الكتاب أصيب بوعكة صحية، لذلك افتقد المشاركون حضوره لمعرفة لماذا تمت ترجمة الكتاب في هذه اللحظة التاريخية رغم أنه مضى على صدوره أكثر من خمسة عشر عاماً.
الرابعة؛ أن الكتاب مهم لأن مصر اليوم تعيد طرح ومناقشة بعض مفاهيمه وخاصة المفهوم العربي، والمفهوم الإسلامي، والمفهوم القُطري، والفرعوني.
وبصفتي المعقب على الكتاب فقد أبرزت وجهة نظري التي سبق ونشرتها في كتابي عام 1997 بعنوان «هوية مصر» بالاشتراك مع المستشار الدكتور مجدي المتولي، وفي تقديري أن لمصر هوية متميزة وفريدة وتراكمية ومتعددة فهي متميزة العمق التاريخي، وفريدة في موقعها الاستراتيجي، كما أوضح ذلك بصدق العالم المصري المشهور الدكتور جمال حمدان في موسوعته من أربعة أجزاء بعنوان «شخصية مصر»، وهي تراكمية لأنها بمثابة طبقات كل منها تتلو الأخرى من الفرعونية ثم القبطية ثم الإسلامية والعربية والبعد المتوسطي ثم الإطار الدولي.
ومصر بهذا التراكم والتعدد لا يمكن أن تكون دولة منعزلة، ولا يمكن أن يسودها، سياسياً أو ثقافياً، نظام ذو هوية تعتمد البعد الواحد، وأن التعددية في الهوية المصرية تعكس ما أسميه الأبعاد الخمسة في الهوية المصرية، هذا التعدد والتنوع في إبعاد الهوية ليس قاصراً على مصر بل يمكن أن ينطبق بدرجات ما على دول أخرى، وإن كان يمكن أن تقتصر هوية دولة أو حضارة مثل الصين أو الهند على بعد واحد للهوية.
باختصار نقول إن هوية مصر ديناميكية نشطة متعددة تراكمية ولا يمكن لبعد واحد أن يقصي الأبعاد الأخرى نتيجة عمق الحضارة المصرية واستمراريتها ومقدرتها على صهر الشعوب الوافدة عليها، وأيضاً هي هوية متفاعلة مع محيطها العربي والإسلامي والإفريقي.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}