تتجه تونس إلى استكمال المرحلة الانتقالية على نحو هادئ وسلس، بعدما تمكن المجلس الوطني التأسيسي من إقرار الدستور الجديد بغالبية ساحقة، وبعدما أمكن التوافق على أن تتولى حكومة تكنوقراط الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية وأن تشرف على الانتخابات المقبلة.
تمكن التونسيون من اجتياز المرحلة الانتقالية بأقل قدر من الخسائر والاضطرابات الأمنية، وحصلوا على دستور أجمعوا عليه، كما أجمعوا على أن هذا الدستور ينقل البلاد من حال التفرقة بين المواطنين إلى المساواة، خصوصاً بين النساء والرجال، ومن نظام الحزب الواحد إلى التعددية السياسية وضمان الحريات العامة بما فيها حرية المعتقد الديني، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن الفساد والمحسوبية ونهب المال العام إلى دولة القانون والمكاشفة.
وصل التونسيون إلى ما يعتبرونه حال التغيير المنشود، بعد إطاحة نظام زين العابدين بن علي، بفضل عوامل عدة، أهمها اثنان: الأول ذلك الصمود الذي لا يلين للمجتمع المدني التونسي وتحركه الدائم ووقوفه بالمرصاد لمحاولات مصادرة التغيير التي برزت في المراحل السابقة، وتصديه عبر المسيرات والتظاهرات السلمية رفضاً لكل أشكال الإرهاب والترهيب والتمسك بالمطالب الأساسية التي رفعت في وجه بن علي، وتشجع هيئات المجتمع المدني ومنظماته على الثبات في مواقفها بالحياد الكامل للمؤسسة العسكرية، التي اعتبرت أن مهمتها هي التصدي للأخطار الأمنية وليس الانحياز السياسي. فلقيت الإجماع الوطني على دعمها في معاركها ضد الإرهاب، سواء في معاقله على الحدود الغربية مع الجزائر أو في بؤر تجمعه في الداخل.
عامل آخر لا يقل أهمية عن السابق، تمثل بالتعاطي السياسي لحركة «النهضة»، صاحبة الشرعية الانتخابية عبر حيازتها أكبر كتلة في المجلس التأسيسي وصاحبة النفوذ الشعبي الواسع على مستوى كل الشرائح الاجتماعية، حيث حاولت «النهضة» الاستفادة من هذا التفويض الشعبي لتفرض هيمنتها الأيديولوجية والسياسية في تونس، وغازلت مجموعات وتنظيمات معادية للتعددية والديمقراطية، وتجاورت مع بعض منها متهم بالتعسف والاستئصال والممارسات الميليشياوية، مثل «لجان حماية الثورة»، ومع بعض آخر متهم بالعنف والإرهاب الصريح، مثل «أنصار الشريعة».
وفي لحظة ما، وعندما بدا أن الغالبية السياسية والشعبية في تونس، والتي وقفت في مواجهة النظام السابق، لن ترضى بالرضوخ لديكتاتورية واستبداد من نوع جديد، بدأت «النهضة» تعيد حساباتها السياسية في ضوء هذا الاستنتاج، وراحت تقدم التنازلات، بدءاً بالتخلي عن مبدأ الاحتكار الحكومي والقبول بحكومة تكنوقراط تشرف على ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وما انطوى عليه من تخل عن شرعية انتخابية، وصولاً إلى تفاهمات على الدستور مع خصومها السياسيين، خصوصاً حركة «نداء تونس» و«الجبهة الشعبية»، بما يعزز الدولة المدنية والتعددية.
لقد لاقت حركة «النهضة»، بما هي حركة إسلامية وفرع من «الإخوان المسلمين»، الأطياف الأخرى في الوطن التونسي، وتكيفت مع المعطيات السياسية، وساهمت في تأسيس الجمهورية الثانية، متخلية عن مشاريع الهيمنة والاستئثار بالسلطة. ما سمح بوصول البلاد إلى الوضع الراهن.
في غضون ذلك، تتجه مصر إلى انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيساً للبلاد على وقع اضطراب أمني وعمليات إرهابية، بما جعل هذا الترشيح مطلباً شعبياً، بعد عزل حكم «الإخوان المسلمين» وتحولهم إلى حركة إرهابية في نظر القانون.
ففي الوقت الذي بات الفرع التونسي جزءاً أصيلاً في الحياة السياسية، تحولت الجماعة في مصر إلى منبوذة ومطاردة من جهة، ومن جهة أخرى تعود مصر لتخضع إلى رئاسة ضابط في الجيش، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الديموقراطية والتعددية، خصوصاً أن الترشيح جاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
لقد وصل الوضع في مصر إلى ما وصل إليه بفعل ما فعله «الإخوان» خلال وجودهم في السلطة وبعد عزلهم عنها، ففي السلطة أظهروا شهوة لا حدود لها للاستئثار بالحكم، رافضين الاعتراف بكل المطالب الشعبية، ولجؤوا إلى الإعلانات الدستورية من أجل الالتفاف على مقاومة المجتمع المدني وأحزابه لتوجههم الاستبدادي. لقد رفضوا الاعتراف بكل الواقع الجديد الناشئ في مصر بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، وتصرفوا كأي حاكم مستبد، عاملين على «أخونة» السلطة والإمساك بكل مفاصلها، رافضين كل مساومة مع المجتمع المدني ومنظماته والأحزاب السياسية المدنية والديمقراطية والليبرالية، وفي الوقت نفسه استهدفوا المؤسسة العسكرية، لكونها المؤسسة التي تتمتع تاريخياً باستقلال ما في إدارة شؤونها، فعادوا كل أطياف المجتمع المصري وهيئاته. وبعد انتخاب السيسي، سيكون السلوك «الإخواني» السياسي والأمني من التبريرات التي يقدمها الحكم الجديد للعودة إلى أساليب أسلافه، أي أن «الإخوان» في مصر اعتمدوا سياسة تتناقض كلياً مع تلك التي اعتمدها فرعهم التونسي، والنتيجة أنهم خرجوا من العمل السياسي. وبدل أن يتوقفوا عند أسباب هزيمتهم ويراجعوا تجربتهم، تراهم يندفعون أكثر فأكثر نحو العنف والتجاور مع منظمات إرهابية. إنهم يمارسون ذلك النوع القاتل من الغطرسة، في حين أن «النهضة» اعتمدت الواقعية السياسية والليونة والتنازل.
عن صحيفة «الحياة»
{{ article.visit_count }}
تمكن التونسيون من اجتياز المرحلة الانتقالية بأقل قدر من الخسائر والاضطرابات الأمنية، وحصلوا على دستور أجمعوا عليه، كما أجمعوا على أن هذا الدستور ينقل البلاد من حال التفرقة بين المواطنين إلى المساواة، خصوصاً بين النساء والرجال، ومن نظام الحزب الواحد إلى التعددية السياسية وضمان الحريات العامة بما فيها حرية المعتقد الديني، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن الفساد والمحسوبية ونهب المال العام إلى دولة القانون والمكاشفة.
وصل التونسيون إلى ما يعتبرونه حال التغيير المنشود، بعد إطاحة نظام زين العابدين بن علي، بفضل عوامل عدة، أهمها اثنان: الأول ذلك الصمود الذي لا يلين للمجتمع المدني التونسي وتحركه الدائم ووقوفه بالمرصاد لمحاولات مصادرة التغيير التي برزت في المراحل السابقة، وتصديه عبر المسيرات والتظاهرات السلمية رفضاً لكل أشكال الإرهاب والترهيب والتمسك بالمطالب الأساسية التي رفعت في وجه بن علي، وتشجع هيئات المجتمع المدني ومنظماته على الثبات في مواقفها بالحياد الكامل للمؤسسة العسكرية، التي اعتبرت أن مهمتها هي التصدي للأخطار الأمنية وليس الانحياز السياسي. فلقيت الإجماع الوطني على دعمها في معاركها ضد الإرهاب، سواء في معاقله على الحدود الغربية مع الجزائر أو في بؤر تجمعه في الداخل.
عامل آخر لا يقل أهمية عن السابق، تمثل بالتعاطي السياسي لحركة «النهضة»، صاحبة الشرعية الانتخابية عبر حيازتها أكبر كتلة في المجلس التأسيسي وصاحبة النفوذ الشعبي الواسع على مستوى كل الشرائح الاجتماعية، حيث حاولت «النهضة» الاستفادة من هذا التفويض الشعبي لتفرض هيمنتها الأيديولوجية والسياسية في تونس، وغازلت مجموعات وتنظيمات معادية للتعددية والديمقراطية، وتجاورت مع بعض منها متهم بالتعسف والاستئصال والممارسات الميليشياوية، مثل «لجان حماية الثورة»، ومع بعض آخر متهم بالعنف والإرهاب الصريح، مثل «أنصار الشريعة».
وفي لحظة ما، وعندما بدا أن الغالبية السياسية والشعبية في تونس، والتي وقفت في مواجهة النظام السابق، لن ترضى بالرضوخ لديكتاتورية واستبداد من نوع جديد، بدأت «النهضة» تعيد حساباتها السياسية في ضوء هذا الاستنتاج، وراحت تقدم التنازلات، بدءاً بالتخلي عن مبدأ الاحتكار الحكومي والقبول بحكومة تكنوقراط تشرف على ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وما انطوى عليه من تخل عن شرعية انتخابية، وصولاً إلى تفاهمات على الدستور مع خصومها السياسيين، خصوصاً حركة «نداء تونس» و«الجبهة الشعبية»، بما يعزز الدولة المدنية والتعددية.
لقد لاقت حركة «النهضة»، بما هي حركة إسلامية وفرع من «الإخوان المسلمين»، الأطياف الأخرى في الوطن التونسي، وتكيفت مع المعطيات السياسية، وساهمت في تأسيس الجمهورية الثانية، متخلية عن مشاريع الهيمنة والاستئثار بالسلطة. ما سمح بوصول البلاد إلى الوضع الراهن.
في غضون ذلك، تتجه مصر إلى انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيساً للبلاد على وقع اضطراب أمني وعمليات إرهابية، بما جعل هذا الترشيح مطلباً شعبياً، بعد عزل حكم «الإخوان المسلمين» وتحولهم إلى حركة إرهابية في نظر القانون.
ففي الوقت الذي بات الفرع التونسي جزءاً أصيلاً في الحياة السياسية، تحولت الجماعة في مصر إلى منبوذة ومطاردة من جهة، ومن جهة أخرى تعود مصر لتخضع إلى رئاسة ضابط في الجيش، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الديموقراطية والتعددية، خصوصاً أن الترشيح جاء من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
لقد وصل الوضع في مصر إلى ما وصل إليه بفعل ما فعله «الإخوان» خلال وجودهم في السلطة وبعد عزلهم عنها، ففي السلطة أظهروا شهوة لا حدود لها للاستئثار بالحكم، رافضين الاعتراف بكل المطالب الشعبية، ولجؤوا إلى الإعلانات الدستورية من أجل الالتفاف على مقاومة المجتمع المدني وأحزابه لتوجههم الاستبدادي. لقد رفضوا الاعتراف بكل الواقع الجديد الناشئ في مصر بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، وتصرفوا كأي حاكم مستبد، عاملين على «أخونة» السلطة والإمساك بكل مفاصلها، رافضين كل مساومة مع المجتمع المدني ومنظماته والأحزاب السياسية المدنية والديمقراطية والليبرالية، وفي الوقت نفسه استهدفوا المؤسسة العسكرية، لكونها المؤسسة التي تتمتع تاريخياً باستقلال ما في إدارة شؤونها، فعادوا كل أطياف المجتمع المصري وهيئاته. وبعد انتخاب السيسي، سيكون السلوك «الإخواني» السياسي والأمني من التبريرات التي يقدمها الحكم الجديد للعودة إلى أساليب أسلافه، أي أن «الإخوان» في مصر اعتمدوا سياسة تتناقض كلياً مع تلك التي اعتمدها فرعهم التونسي، والنتيجة أنهم خرجوا من العمل السياسي. وبدل أن يتوقفوا عند أسباب هزيمتهم ويراجعوا تجربتهم، تراهم يندفعون أكثر فأكثر نحو العنف والتجاور مع منظمات إرهابية. إنهم يمارسون ذلك النوع القاتل من الغطرسة، في حين أن «النهضة» اعتمدت الواقعية السياسية والليونة والتنازل.
عن صحيفة «الحياة»