ما يحدث في بلادنا اليوم وما صار «سلك البلد» هو أن كلاً منا يلغي الآخر الذي لا يتوافق معه في الرأي والموقف والفعل، فأنت لا شيء طالما أن فكرك ورأيك ومواقفك لا تتوافق بل لا تتطابق مع فكري ورأيي ومواقفي، فأنا الوحيد الذي ينبغي أن أكون في الساحة، وأنا الوحيد الذي يفترض أن أكون المثال والنموذج، ومن يخالفني فليس مني!
بالمقابل أنا لا شيء طالما أن فكري ومواقفي وأقوالي لا تتطابق مع ما يصدر عنك، فأنت «الصح» الوحيد في الساحة.. وأنت الوحيد الذي يمتلك عقلاً في العالم ويفهم!
هذه إشكالية خطيرة أوصلتنا إليها أحداث السنوات الثلاث الأخيرة. اليوم لم يعد أحدنا يتقبل رأي الآخر؛ بل لم نعد نتقبل وجود هذا الآخر، فالآخر إن لم يتطابق معنا ولم يكن معنا قلباً وقالباً فلا قيمة له ولا وزن. الآخر إن لم يكن أنا، وأنا فقط، فلا احترام له ولا مكانة ولا اعتراف بوجوده.
اليوم إن لم تقل ما أقول وتفعل ما أفعل فأنت خائن، واليوم إن لم أقل ما تقول وأفعل ما تفعل فأنا بلطجي. أنت موجود ومعترف بك ومحترم طالما كنت توافقني الرأي والموقف، وأنا لا قيمة لي ولا مكانة ولا أستحق الاحترام لمجرد قولي إنني أخالفك الرأي. لم يعد لأحدنا قيمة لدى الآخر حتى ونحن نردد القول الشهير المنسوب للإمام الشافعي «قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب». اليوم يلغي أحدنا الآخر في نفس الوقت الذي نرفع فيه شعار المطالبة بالحريات!
عملياً لا يمكن إلغاء الآخر لأن هذا الآخر هو مني وأنا منه، كلنا بحرينيون وكلنا يعمل من أجل البحرين (أو هكذا يفترض)، وإذا كان وارداً الاختلاف في المسألة الأخيرة فإن ما ليس وارداً هو إلغاء الآخر واعتباره غير موجود.
اختلافي مع الآخر لا يعني أنه لا يفهم ولا يعقل، ولا يعني أنه لا قيمة له وأنه ينبغي ألا تكون له مكانة أو احتراماً، واختلاف الآخر معي لا يعني كل هذا وكل ذاك. نختلف نعم، لكن ليس مقبولاً ولا منطقاً إلغاء بعضنا البعض لأن اعتماد هذه النظرية يعني إغلاق الباب أمام كل تفاهم وفي وجه كل حل.
كي نحل مشكلتنا التي تعقدت وستتعقد أكثر وأكثر كلما تأخرنا في إيجاد حل لها علينا أن نحترم بعضنا البعض، وأن نعترف ببعضنا البعض وأن نستوعب بعضنا البعض. لا يمكن أن نلغي تاريخنا المشترك ووطننا الذي بنيناه معاً بسبب فعل طائش قام به البعض واعياً أم غير واع، فالبحرين من البلدان التي استوعبت كل التناقضات وفيها عاش كل المختلفين في كل شيء، وإلا فكيف اعتبرت أرض حضارة؟
ما قد لا يستوعبه البعض هو أن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ينطلق من قناعة ملخصها أنه فليكن لك ما تريد من دين ومذهب، ولا يهم لونك وأصلك وفصلك، ما يهمني هو أن تشاركنا في الارتقاء بالبحرين وخدمة الإنسانية، ذلك أن من واجبنا مواصلة الدور الحضاري الذي تلعبه البحرين على مدى التاريخ، ومن واجبنا الإعلاء من شأن بلادنا وضمان مشاركتها في الفعل الإنساني.
هذه النظرة لصاحب الجلالة التي تستوعب الآخر بغض النظر عن كل شيء ينبغي أن تلغي تلك النظرية التي تلغي الآخر حتى الذي هو منا ونحن منه.
التوقف عن إلغاء الآخر والاتفاق على ضرورة استيعاب بعضنا البعض هو بداية الطريق نحو الحل الذي لا بد أن نوجده قبل أن «يفوت الفوت».