ربما هي المرة المليون التي نكرر فيها ونقول إن «ممارسة النقد» حق مكفول دستورياً. وضعوا ألف خط تحت توصيف «مكفول دستورياً»، بل ونزيد من عندنا ومن منطلق عرف الصحافة وأدبياتها بأن «النقد البناء» هو أعلى مراتب النقـد، بحيث يتجرد الناقد من شخصنة الأمور وربطها بمن يكون صاحبها بالأخص إن كان في منصب عام، ويركزها على الأداء والعمل وتقييم المخرجات.وعليه فإن دستور مملكة البحرين كافل للنقد، وقيادة البلد تدعو للنقد بما يساهم في البناء والإصلاح وتعديل أي اعوجاج، بل تؤكد في كل مناسبة يتواجد فيها رجال الصحافة أو الذكرى السنوية ليوم الصحافة العالمية بأنها -أي القيادة- تطالب الصحافة بالقيام بدورها في كشف الأخطاء والإشارة لها لتساعد السلطات الأخرى في تصحيحها وتقويمها.إلى هذا الحد من الكلام لن تجد أحداً يختلف معك، أو مع ما تقوله الصحافــة، أو ما تنطلق منه من ثوابت ومبادئ مهنية، لكن المشكلة حينما نخضع هذا الكلام إلى الواقع العملي، لنرى في المقابل تعاطياً غريباً من قبل كثير من المسؤولين.المفارقة أن من يتولى منصباً يسارع للقول: «المنصب تكليف وليس تشريفاً»، وبعضهم ينهج نهج الصحابة الكرام في تأسيسهم لممارسة الإدارة الصحيحة كقول سيدنا أبي بكر الصديق: «إن أصبت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني»، لكنها للأسف تظل كلمات سرعان ما تتكسر مصداقيتها -لدى البعض وليس الكل- حينما تصطدم بصخور بل بجبال الواقع.إن كنا اليوم نمارس النقد بشأن حراك الدولة، ونوجهه مباشرة لها بالقول سواء «الدولة» أو «الحكومة»، فإن لم يكن هناك تفاعل مباشرة وسريع، فأقلها فهناك تقبل وأريحية في التعاطي وتقدير وشكر على ذلك ووعد بمتابعة الأمور وتصحيحها، هذه لمسناها من كبار قادة البلد على رأسهم جلالة الملك وسمو رئيس الوزراء وسمو ولي العهد حفظهم الله ونشد على أيديهم ونعاهدهم بالمواصلة في العمل معهم بإبداء النصيحة المتواضعة ونطق الكلمة الصادقة خدمة لهذا الوطن العزيز وللمساهمة في التصحيح.لكن الغريب حينما نجد تعاطياً «غير محمود» من قبل بعض المسؤولين مع ما يكتب وينشر من نقد تجاه قطاعاتهم، نجد الصد، بل للأسف نجد حتى مناصبة العداء، والكارثة إن كان النقد متجرداً من الشخصنة والكلام الجارح والتهجم والهجوم غير المبرر، إذ حتى هذا «النقد البناء» بات مذموماً للأسف، رغم أنه حق للصحافة.لسنا نقول بأن كل ما تورده الصحافة منزه عن الجنوح والابتعاد عن السياق الصحيح للنقد الراقي الذكي الذي يدعم القول بالدليل والذي يبتعد عن القشور ويركز على اللب وينأى بنفسه عن الوقوع في مآخذ، لكن حتى هذا له أسلوب في التعاطي والأخذ والرد من قبل الجهة أو المسؤول الذي طاله النقد.لست أتحدث عن جدلية تقبل الهجوم أو في المقابل النقد، بل أتحدث عن مصيبة باتت ملحوظة تتعلق بوضع كل أنواع النقد تحت خانة النقد المرفوض، أتحدث عن تصورات لدى مسؤولين بأن كل كلمة تكتب هي تهجم وهجوم وشخصنة، حتى النقد البناء الذي تضطر لبدء سطوره بمقدمة تبين الإنجازات وتشد على يد القائمين على الأداء ثم تبين بعض مواقع الزلل بلغة هادئة علمية، بات نقداً مرفوضاً البتة.يا جماعة، ليس هكذا تورد الإبل، فقطاعات الدولة على سبيل المثال ليست أملاكاً خاصة حتى لا يطالها ويطال القائمين عليها النقد لو ثبت وجود أخطاء فيها، وحتى إن وجد النقد فأين المقولة الشهيرة التي يرددها الكل «الاختلاف لا يفسد للود قضية»؟!مازالت صحافتنا البحرينية وحتى كثير من المؤسسات الإعلامية الخليجية والعربية تراعي الكثير من الأمور أثناء ممارستها النقد، أمور تتداخل فيها الروابط المجتمعية والعادات والموروثات والحساسية من بعض الأمور، لم نصل بعد للمستوى التي تمارسه بعض المؤسسات الإعلامية الأوروبية التي تتحامل باحترافية تصل لدرجة «القساوة» فلا تواري أو تخفي أو «تطبطب» بل بسبب دورها يضطر كثير من المسؤولين للاستقالة لأن ما يكشف يستدعي اتخاذ موقف أدبي سريع، وإلا فإن البقاء بحد ذاته جريمة.الفكرة هنا بأن الاحترام الشديد يوجه للمسؤول الذي يعرف أولاً التفريق بين النقد البناء وبين خلافه، يضاف إليه بأن الاحترام يوجه له إن تعاطى مع هذا النقد بأسلوب ذكي بحيث يستفيد منه ويصحح الأخطاء إن ثبت وجودها، وأن يوضح الصورة وينشر المعلومة الناقصة أو الغائبة. التعامل مع الإعلام بات اليوم فناً يدرس، وهذه حقيقة، بات مادة علمية يحرص عليها كبار المسؤولين حتى على أعلى المستويات.- اتجاه معاكس..يخطئ بحق نفسه وبحق وطنه وقطاعه المسؤول الذي يصد أذنه عن سماع أخطاء عمله، وهناك من فعل ذلك ثم اضطر للاستعانة بشركات ومؤسسات خارجية بعقود مالية ضخمة لتلعب له دور الناصح أو المستشار، أفلاطون يقول: «من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئاً، فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى سعر».
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90