منذ فترة من الزمن وأنا أتابع أنشطة صاحب السمو الأمير خليفة بن سلمان عن بعد، وأتابع تصريحاته للإعلام وما يذكره في اجتماعاته مع المسؤولين من البحرينيين ومن الدول الأخرى، وأشعر بإعجاب مشوب بالحذر، لأنني أعرف أن كثيراً من المسؤولين في مختلف دول العالم يتم إعداد تصريحاتهم وبياناتهم مسبقاً من قبل معاونيهم، ومن ثم فأحياناً هذه التصريحات تعبر عن مواقفهم وفكرهم وأحياناً لا تكون كذلك.
لكن شاء الله أن أستمع مباشرة من صاحب السمو خليفة بن سلمان وكان يتحدث في جمع من الزائرين له، ولم تكن أمامه ورقة يقرأ منها؛ بل تحدث بطلاقة وبفكر متدفق وعبر عن رؤية ثاقبة، كرجل دولة يتحدث عن بلاده وعن شعبه وهو مهموم بهما دائماً، وكرر في كلامه أن هذه هي إنجازاته ملموسة على أرض الواقع، وهو يعتز بها لأنه قام ومازال يقوم بواجبه، وهو لا يرى في ذلك منة أو تفضلاً منه على وطنه وشعبه، بل يرى أن عمله وإنجازاته واجب عليه، وأضاف أن هذا الوطن وهذا الشعب يستحق الكثير فهو شعب معطاء وشعب طيب وشعب متفتح وشعب عامل بجد وحقق الكثير قبل طفرة النفط في المنطقة، والتي حباه الله منها القليل، ولكنه حقق من خلالها وبفضل وقوف إخوته من دول المنطقة معه الذين لم يترددوا في مساندته بكل أريحية.
ثم تحدث عن التحديات والتهديدات التي تواجه البحرين، وكيف أنها نجحت في التغلب عليها في الماضي، وأكد ثقته في التغلب عليها مستقبلاً بفضل هذا الشعب وإصراره، وأشار إلى شخصيات من سترة ومن مناطق أخرى في البحرين أظهروا حبهم لوطنهم وتمسكهم باستقلاله وعروبته عندما جاء ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لاستطلاع آرائهم، مؤكداً أن هذه مواقف يعتز بها من أبناء وبنات الشعب البحريني أياً كان مذهبهم أو طائفتهم أو حتى ديانتهم. وأشار إلى نجاح هذا الشعب في التغلب على الأحداث المؤلمة والمؤسفة التي تعرضت لها البلاد منذ ثلاث سنوات وتركت جرحاً في اللحمة الوطنية، ولكنها لم تمس أسس بناء الوطن ووحدته وإيمانه بقيادته، وإن هذا الجرح التأم في معظمه وهذا دليل على مناعة الجسم البحريني؛ فلديه قدرة على المقاومة والصلابة واستعاد العافية وتخطى العقبات مبرزاً وقوع البعض في مفاهيم خاطئة وضرب مثلاً بمصطلح المقاومة وأنه موجه ضد جهتين أساسيتين هما المحتل للوطن، والعدو المتربص به من الخارج.
أما العلاقة بين الشعب والحاكم فتوصف بتعبير التعاون والتفاعل والتضامن بل وحتى الاختلاف، مشيراً إلى مقولة أحد الشخصيات الشيعية، وكان ضريراً من أهل منطقة سترة، عندما التقى مع مبعوث الأمم المتحدة فقال له إنه يؤيد استقلال بلاده ويتمسك بذلك ويرفض أي تدخل أجنبي في شؤونها، وإن بلاده وشعبه يريدون حكم آل خليفة وإنهم يعرفونهم ويعرفون كيفية التعامل معهم في ما يتفقون عليه وفي ما يختلفون فيه، واستطرد سمو الأمير خليفة بأن هذا موقف يعتز به ويعبر عن أصالة هذا الشعب وأن هذا بخلاف قلة رغبت في اختطاف الوطن لمصلحة قوى أجنبية.
وتحدث عن مناطق البحرين وحواريها وشوارعها وأزقتها حديث خبير بها باعتباره ابناً من أبنائها عاش ويعيش متلاحماً مع شعبه، ولفتت نظري روح الدعابة الخفيفة لدى خليفة بن سلمان والصراحة والوضوح والشفافية الثاقبة في معرفته بالطابع الذاتي أو السمات الخاصة بكل منطقة من مناطق البحرين، وبكل فئة من فئاتها خاصة العلماء منها، والذين أبرز أن عليهم دوراً مهماً في نشر الفضيلة والتسامح وتقوية الاعتدال والحفاظ عليه باعتبار ذلك من خصائص شعب البحرين ومصدر قوته بعيداً عن العنف أو التطرف أو التعصب الذي جر الويلات على الشعوب القريبة في المنطقة مثل العراق وسوريا ومصر وتونس وليبيا وغيرها، وشعرت كأن خليفة بن سلمان يقدم بسلاسة للسامع تحليلاً لأسباب التمرد أو الثورات التي أطلق عليها الربيع العربي وما آلت إليه الأوضاع في تلك الدول بعد ثلاث سنوات من انطلاقها، وقارن بين ذلك وبين استقرار البحرين وتقدمها وتطور البنية الأساسية فيها والخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها.
ومتطلعاً عبر الآفاق أشار خليفة بن سلمان للسياسة الدولية بكلمات بسيطة تمس شغاف القلوب بعبارات قليلة وكلمات تتسم بالإيماءة، وإن أفصحت عن الكثير موضحاً ما حدث للعراق من تدخل أمريكا ومما حدث في الحرب العراقية الإيرانية وكيف كانت العراق حصناً وسنداً للخليج العربي وما وصلت إليه الآن لتكون مصدراً للمتفجرات للبحرين الأمر الذي كشفته أجهزة الأمن منذ أيام مضت وتساءل دون أن يذكر ذلك صراحة عن دور قوى دولية وإقليمية ذات مصلحة تتبنى سياسة مناهضة لشعوب المنطقة وطموحاتها وضرورة التنبه لمثل هذه الأدوار والتحريض عبر الحدود.
كان ذلك بعض ما ذكره خليفة بن سلمان في ذلك اللقاء المتميز بثاقب رؤيته. وأقول ما طرأ بذهني وأنا أستمع له إن الرجل كان يتحدث بهدوء وحكمة وصدق دون أن يوجه اتهاماً لأية دولة أو لأي شخص، وإنما كان يشير للخير بالنسبة لكل فرد من أبناء شعب البحرين، وكل طائفة، وتصورت سليمان الحكيم عندما كان يتحدث لابنه كما جاء في القرآن الكريم في مواعظ لقمان الحكيم إذ قدم وصفاً دقيقاً للعلاقات الإنسانية ناصحاً ابنه بأن تكون له ذاتية مستقلة يحافظ عليها كما جاء في قوله تعالى (وَلا تصعرْ خدَّكَ للناسِ وَلا تمشِ في الأرْضِ مرَحاً إنَّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ مختالٍ فخورٍ) ( لقمان، 18)، وقوله تعالى (وَاقصدْ في مشيكَ وَاغضضْ منْ صوْتكَ إِنَّ أَنكرَ الأصوَاتِ لصوْتُ الحميرِ ?لقمان، 19?، وقلت في نفسي وأنا أستمع لخليفة بن سلمان إنني أعرف أن البحرين هي صاحبة حضارة دلمون، وأن أبرز أساطيرها أسطورة جلجامش وأنها أرض الخلود، والآن يمكننا القول بأنها بلد لقمان الحكيم الذي يتجسد في صورة معاصرة في كلمات بليغة من خليفة بن سلمان.
وأخيراً ثمة ملاحظة مهمة أشار إليها صاحب السمو الملكي الأمير خليفة؛ وهي تطلعه إلى كتابة مذكراته لينقل من خلالها تجربته العملية للاستفادة بها من قبل الأجيال القادمة لمعرفة كيف تحقق استقلال البحرين، وكيف ناضلت القيادة من أجل ذلك، وكيف تغلبت على التحديات، وكيف عملت من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار وتحقيق الازدهار.
أقول تعليقاً على ذلك بأنني من المؤمنين بمثل هذا النهج في نقل التجارب للأجيال القادمة من قبل الساسة وكبار الشخصيات، وهذا هو المنهج الذي يتبعه كثيرون من قادة دول الغرب، ولكنه منهج مفتقد لدى دولنا العربية والإسلامية، لذلك فإن تفكير خليفة بن سلمان يعد نموذجاً فريداً وحبذا لو يتم تنفيذه في أقرب وقت، وأن يقتدي به الآخرون من الساسة وكبار الشخصيات والقادة.