لم تكن الفاجعة في حادثة التحرش بميدان التحرير إبان الاحتفال بتنصيب المشير عبدالفتاح السيسي رئيساً لمصر وقوع عملية التحرش في ذاتها، بل في الصبغة الجماعية المخيفة التي تمثلت فيها، حيث توافد ذئاب التحرش وتكاثروا على الفتاة لمدة طويلة دون أن يتقدم أحدهم لإنقاذها، ولم يتمكن رجل الأمن من مساعدتها وسط هذه الجموع رغم إطلاقه أكثر من ثلاثين رصاصة في الهواء. كيف صار التحرش ظاهرة علنية في مصر؟ وكيف تمكن المتحرشون من بسط قوتهم والمجاهرة بأفعالهم بل وتصويرها وبثها على الإنترنت دون خجل أو خوف؟ أسباب كثيرة أدت إلى تفشي ظاهرة التحرش في مصر، أغلبها يتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي سقطت فيه مصر في العشرين عاماً الماضية. ولكن حري بنا أن نتوقف أمام ظاهرة خطيرة اجتاحت مصر والعالم العربي لا يمكن ألا تترك آثارها الخطيرة على الوعي الفردي والجمعي العربي. إنها ظاهرة الإسفاف الفني في الأعمال السينمائية والدرامية وحتى المسرحية التي تبيع «ثقافة القبحيات» تحت شعار الفن والإبداع والتعبير عن الواقع وقسوته ومرارته.
في ثمانينات القرن الماضي تم إنتاج فيلم «المغتصبون»، وهو فيلم يروي اغتصاب مجموعة من الشباب البائس من سكان الحواري الفقيرة لفتاة من الطبقة المتوسطة. مشهد الاغتصاب لم يكن في حقيقته مشهداً جنسياً مثيراً، بل كان مشهد «جريمة» بشعة، ثم عرض الفيلم معاناة الفتاة وتقديمها شكوى الاعتداء في مركز الشرطة ثم القبض على المتهمين وسرد اعترافاتهم، وينتهي الفيلم بمحاكمة الجناة ورفع أوراقهم للمفتي ولبسهم البدلة الحمراء استعداداً للإعدام. رسالة الفيلم التي يتلقاها وعي المشاهد أن الاغتصاب جريمة واقعية وأن نهايتها الواقعية حسب القانون هي الإعدام.
وفي منتصف التسعينات ظهرت موجة ما يسمى «السينما النظيفة» التي تصدرتها الأفلام الكوميدية لمجموعة من الممثلين الشباب الجدد آنذك مثل محمد هنيدي. كان فحوى تلك الأفلام الكوميديا وعدم وجود أي مشاهد إباحية أو مثيرة. وحققت تلك الأفلام إيرادات طائلة تعد الأولى في تاريخ السينما المصرية. لكن موجة أفلام «السينما النظيفة» قوبلت بهجوم من بعض المخرجين والنقاد حول مفهوم النظافة غير الواقعي في الأفلام وفي الإبداع. وقد يكون أشهر تعليق على ذلك تعليق المخرج خالد يوسف الذي قال: ما معنى سينما نظيفة؟ «يعني بتغسل إيديها بالمايه والصابون»؟
بعدها بعدة سنوات تمكنت موجة ثانية من الأفلام من التصدر وتحقيق إيرادات لا تقل عن أفلام السينما النظيفة، إنها سينما «الحواري» التي تكشف عن مظاهر البؤس والحرمان والحيوات السرية والشاذة لسكان الحواري المصرية المتمثلة في أطفال الشوارع ونساء الدعارة والرجال المقامرين والمنحرفين، والعلاقات السرية والزواجات العرفية....
أفلام الحواري تشبك مجموعة من القصص لقاطني تلك الحواري دون سياق يجمعها سوى الفضاء المكاني، ولا هدف أو مقصد من الفيلم سوى «الكشف» و«التعرية» للحياة البائسة لسكان تلك الحواري من أجل معرفة الواقع وفهمه والدراية بما يجري حول المصريين في المناطق النائية المجهولة. وبذلك توارت الطبقة الوسطى عن بطولة تلك الأفلام. واختفت قصص لهاث الآباء على الدروس الخصوصية ليتفوق أبناؤهم في الثانوية العامة ويلتحقوا بكلية الطب، وانتهت قصص البحث عن الشقة من أجل الزواج، أو الهجرة والإعارة خارج مصر من أجل «تحويشة العمر»، ولم ترد قصص معاناة المرض أو إتمام المعاملات في المصالح المصرية.... قدمت السينما المصرية صورة سيئة للشخصية المصرية وللحارة المصرية، وكرست صوراً مختلة لمفهوم المعاناة والفقر والحرمان، إذ ركزت على قاع قاع المجتمع الذي يمثل شريحة ولا يعكس طبيعة الشعب، وكان آخر نموذج لذلك فيلم «حلاوة روح» لهيفاء وهبي الذي أثار سخطاً كبيراً في الشارع المصري أدى إلى إيقاف الفيلم بقرار رسمي من رئيس الوزراء «شخصياً». بالتالي عملت، تلك الأفلام على خلق حالة من التطبيع والألفة مع المشاهد المثيرة المقدمة في صور مقززة.، وفي تقديري، أن كثافة تلك المشاهد وإقناع الجمهور بواقعيتها وطبيعيتها هو من ضمن الأسباب التي أدت إلى تطبيع عمليات التحرش والمجاهرة بها الإقبال على تصويرها وتزايد المنتسبين إليها. الفن والإبداع بوصلة حضارة الأمم، إذا أردت أن تعرف اتجاه حضارتها فاقرأ في فنها وإبداعها، وإذا أردت تعديل مسار الحضارة عدل أولاً في فنها وإبداعها، لأنهما ضمير الأمة ونبض وجدانها والمدد الروحي الذي يدفع المدد الذهني والعلمي. فانتبهوا لفنكم وإبداعكم يا عرب.