غياب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عن يوم إعلان ترشحه للانتخابات الأخيرة وغيابه المضاعف عن إدارة حملته الانتخابية وعن مواجهة الجمهور ومخاطبتهم، وظهوره يوم الاقتراع على كرسي متحرك وقد بدت عليه علامات الإعياء والمرض والتقدم المفرط في السن؛ يختزل مجمل «مفصليات» الحكاية الجزائرية الحديثة التي ما أن تنطلق مبتهجة بنصر أحرزته حتى تقع في كبوة لتبقى في كبوتها الثانية خائفة من ظلال الكبوة الأولى.
بعد ثورة المليون شهيد سقطت الجزائر في يد جنرالات الجيش الذين خدموا الاستعمار الفرنسي، إنه الانقلاب الأول على قيم أي ثورة، أن يحصد ثمار دمائها سفاحوها. ظل هذا الانقلاب يخيم بأشباحه على كل ثورة عربية، وصار الخوف من أن تأكل الثورة أبناءها وأن تقدم جثثهم على مائدة العملاء العائق الرئيس أمام أي تغيير عربي. وقد شهدنا في عملية إسقاط النظام العراقي السابق وفي موجة الربيع العربي الحالية تمثلات مخيفة لهذه البنية المزرية في التركيبة العربية السياسية.
مازلنا نحن المشرقيون بعيدون عن نبض إخواننا في المغرب العربي، ولم تتمكن إمبراطورية الوسائط الإعلامية بكل جبروتها، لحد الآن، من كسر الحاجز المعرفي والعاطفي بيننا وبين الأصقاع النائية خلف البحر الأحمر. يقول لنا الإخوة الجزائريون إنهم عن وعي وعن إدراك سديدين لم ينخرطوا في موجات ما سمي، بالربيع العربي، فقد ذاقوا قبلنا مرارات التغيير ومخاطر ما يتألق أمامنا باسم «الديمقراطية»، حين خاضوا انتخابات عام 1991 التي أوصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى سدة الحكم باعتبارها الحركة الأكثر تنظيماً بين الجزائريين والأكثر قدرة على الحشد الجماهيري والسيطرة على مشاعر الناس وتوجيهها، ثم شهدوا إلغاء الجيش لنتائج الانتخابات قبل إلغائها، الأمر الذي أدخل البلاد في دوامة عنف كلفت الجزائر في عقد من الزمان ما بين 80-200 ألف قتيل، استناداً إلى اختلاف الحسابات بين المنظمات الحقوقية والقانونية.
يقول لنا الجزائريون إنهم تابعوا تداعيات التغييرات العربية الأخيرة، وكيف انتهى المشهدان: المصري بعد تولي الإخوان حكم مصر، والسوري بعد انكشاف خلفيات الأحداث في سوريا، إلى حالة تماثل مع المشهد الجزائري بعد وصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ للفوز في الانتخابات، حيث خرجت الحركات الإسلامية الكامنة من مخابئها وانتشرت الفوضى والقتل باسم الإسلام تارة وباسم الديمقراطية تارة أخرى. يقول لنا الجزائريون إن الداء المشرقي بتفشي الطائفية والعرقية بدأ يتسرب إلى بلادهم بعد الربيع العربي، حيث دقت أسافين الفتنة بين السنة والإباضية تارة، وبين الأمازيق والعرب تارة أخرى، وهو ما لم يعهده الجزائريون ولا يطيقون الانزلاق إليه بعد سنوات الصراع الطويلة التي صاروا يسمونها «العشرية السوداء».
بعيداً عن الحديث عن تزوير انتخابات 2014، التي كان شاهدها الأبرز، إصدار إجازة صحية للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة تثبت أنه لائق صحياً وقادر على تولي مهام الرئاسة. فإن إخواننا الجزائريين يقولون لنا إنهم يحترمون دور بوتفليقة التاريخي في نزع فتيل أزمة السنوات العشر الدامية، ويقدرون دوره الرئيس في إصدار قانون المصالحة وإرساء حالة الوئام والاستقرار بين الجزائريين، الذي هيأ للبلاد النهوض الاقتصادي والتقدم التنموي. وعلى الرغم من معرفتهم أن جيشاً جراراً من المتنفذين والانتهازيين سيديرون البلاد خلف كرسي بوتفليقة المتحرك، إلا أنهم اختاروا الاستقرار والأمان. ويأملون أن يجد المجهولون القابعون خلف صورة بوتفليقة صيغة مرضية لترتيبات انتقالية تحمي الجزائر من عشرية دامية ثانية تطل أشباحها من حدود ليبيا وتونس.
السردية الجزائرية سردية نموذجية لمشكلات الواقع السياسي العربي المستعصية عن الحل. كيف سينتقل العرب إلى المستقبل وقد بات الخوف من التغيير هاجسهم الأول؟، ما الحل وكل تغيير عربي أثبت أن بقاء الحال أفضل من الترحال بين الشعارات والمغامرات والخذلان؟ إنها أسئلة المستقبل التي علينا حلها قبل الحديث المثالي عن التغيير والديمقراطية ودخول أبواب المستقبل من بواباته الذهبية التي لا نمتلك مفاتيحها.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}