رسالة أرسطو عن « فن الشعر» تبين أن أبا التراجيديا الحقيقي هو «ثسبيس» في القرن السادس ق. م.، وهو من أوجد فكرة التمثيل فبعد أن كانت الأحداث تروى على لسان رئيس الكورس، أو الجوقة أصبحت تمثل أمام المشاهدين، ويقوم بتمثيلها شخص آخر غير رئيس الجوقة، ويطلق عليه «هوبوكريتيس» أي المجيب، أو الشخص الذي يعبر عن آراء غيره، أو الذي يظهر على غير حقيقته، فهو الممثل الذي يجري على لسانه كلام الشخصيات المختلفة التي يقوم بتمثيلها، ويؤدي هذا الدور الشاعر نفسه فيغير ملابسه وقناعه - فيما بعد - في خيمة قريبة تسمى «سكيني» بما يتفق مع الشخصية المراد تمثيلها، بينما أفراد الجوقة يستمرون في الرقص والإنشاد، ثم يعود إليهم ليناقش معهم ما قالته الشخصية السابقة أو يعارضها أو يرثو لها، وهكذا حتى تنتهي المسرحية.
بعدها جاء «براتيناس» ليبتكر « الأقنعة» التي حلّت محل طلاء الوجه، الذي استخدمه «ثسبيس» وهو من أدخل على الملابس بعض التعديلات الهامة. ثم جاء «اسخيلوس» مبتكر التراجيديا الحقيقي وصاحب الفضل الأول في وجودها بالصورة التي نعرفها، و يعزى إليه إظهار الممثل الثاني، ما أدّى إلى وجود الصراع بين وجهات النظر المختلفة، وزيادة عنصر الحوار على عنصر الغناء عند الجوقة، وهو من اهتم بالإخراج والمهمات المسرحية، فتولى الأقنعة بالتهذيب والصقل لتعبر تعبيراً صادقاً عن ملامح الممثل وعواطفه، واعتنى بملابس الممثلين. ثم جاء «سوفوكليس» ليضيف ممثلاً ثالثاً وليهتم بالمناظر. هكذا وصلت التراجيديا إلى أوج الكمال،عندما قام «سوفوكليس» في العام 465 ق.م بإنشاء مناظر مسرحية مصنوعة من القماش الملون حين انتقل الممثلون للتمثيل على «البروسكينون» كان الستار الملون الذي يمثل منظر المسرحية يرسم على واجهة الاسكيني أو يعلّق عليها، والتصوير أمسى لتوضع الألوان الرئيسية بشكل ليس فيه أثر للحذق الفني، ولم يكن الإغريق قد عرفوا بعد قواعد المنظور، فكان الرسم عندها هو إشارة أو مقاربة إلى العناصر الطبيعية، فالبحر لونه أزرق والأرض صفراء داكنة وجذع الشجر بني داكن والفروع لها لون أخضر، وسرعان ما نشطت هذه الصناعة وتخصص لها رسامون وصارت حرفة تدرس.
ذلك كان تاريخ المسرح الإغريقي ورواده لكنني أود التقريب فيما كان عليه المسرح «أبو الفنون» وما هو عليه اليوم في خشبه تناثرت أرجاؤها في كل زوايا الدنيا وأصبح الجميع ممثلين، بل إنهم نجوم غصب عن عين المشاهد، فحياتنا اليوم وما يصطبغها من أقنعة فاقت الأقنعة التي ابتكرها «براتيناس» التي حلّت محل طلاء الوجه وأصبح الجميع دون تمييز فهم ولدوا بوجوه مطلية بألوان لا تناسق فيها ولا حرفية وأقنعة لاتزعزعها عواصف وأعاصير الدنيا ولا براكينها مجتمعة، فقد صبغوا بها وتدربت ألسنتهم على الحديث بنفس النغمة وكأنها واحدة من مقطوعات السيمفونية التاسعة « لبتهوفن» - تلك التي أُخذت كلماتها في هذه الحركة من قصيدة للشاعر الألماني شيللر، ليكون بتهوفن أول من وضع غناء في سيمفونية، حيث لم يقم بذلك أحد قبله -، لكننا اليوم نجد أن هناك من ينافسونه في ما يقدم من برامج تلفزيونية وحوارية طغت عليها السطحية الضحلة في الإعداد والتقديم وحتى الضيوف الذين هم أكثر من كومة الذباب على ذبيحة عفنة لا يأتيك منها إلا رائحتها النتنة تحولوا إلى مساعدين في تقديم هذه البرامج الرخيصة.
تجد من هذه «الاستيجات» المنتشرة على هذه الأرض المسكينة يطلع لك واحد من البلاوي «طايح في جبد أهله» وفي يوم وليلة يصبح واحداً من رجالات السياسة والأعلام وهو من يرفع المفعول به وينصب الفاعل ولا يفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويرمي بأحداث الدنيا يميناً وشمالاً والناس تهلل له وتعتبر «أحلامه أوامر». هذا الحال يقلل من كل ما قرأناه وتعلمناه في الصحافة والمسرح والعلاقات والثقافة ومن نتائجه أن السمك المعروض في السوق «زمروز واشوية عفاطي وجم ميده» تحولوا بقدرة قادر إلى هامور وصافي وجنعد حتى الشعري لم يكن بالبعيد عن تلك المعركة غير المتكافئة أصلاً.
أنا كل ما أرثيه أن هذا العالم الأمي الذي تحول بجرة قلم إلى مجموعة علماء ينافسون أرسطو و«سوفوكليس» هم بالأساس شوية كومبارس في جوقة فاشلة تنشز في هذه الحياة كيفما سارت ولكن نشازها تحول لدى الكثيرين إلى سلم موسيقي يجب أن يدرس، بل هم من يصفقون لهم ويدفعون باللحم في فمهم تلك هي «الكارثة»، ومن ثم يتبرؤون من جلدها ويرمون بأقنعتها في أقرب مزبلة، ليأتوا بشخصيات غريبة وجديدة ويلبسوهم نفس الأقنعة ويصعدوا بها بسرعة البرق على «ستيج» آخر، ويوزعون عليها الأدوار ويبدؤون مع مخرج جديد يقدمون مسرحية معادة ومكررة والجديد فيها الأشخاص الذين يتقمصون الأدوار من وراء نفس الأقنعة بحثاً عن أدوار بطولة من أول ظهور لهم على خشبة المسرح.
الرشفة الأخيرة
« رأيت سكوتي متجراً فلزمته إذا لم يفد ربحاً فلست بخاســـــــر
«المعري»