قد يزعج هذا الحديث بعض المعنيين، لكن المزعج أكثر فيه بأن المواطنين هم الذين وقع عليهم الضرر، وصورة المشهد في مجملها تقول بأننا وصلنا لهذا الحال الغريب لأن التخطيط غير موضوع على أسس ولأن العمل لدينا غالباً ما يكون بشكل عشوائي ومنفرد بحسب كل جهة دون وضع أي اعتبار للتكاملية.
للابتعاد عن الألغاز، أنقل هنا وضعاً معوقاً بشأن ضوابط العمل في الهيئات شبه الحكومية واختلافها عن ضوابط العمل في القطاعات الحكومية، وكيف أنه بعد سنوات من تحول هذه الهيئات لما أشبه بالقطاعات الحكومية لكن بدرجة «فيرست كلاس» بمقارنتها بالقطاعات الحكومية، عادت اليوم لتعمل وكأنها قطاعات حكومية لكن بالاقتصار على المنظمين الجدد.
يعرف العاملون في الهيئات ما أعني، وبعض العاملين فيها قبل التغيير الإجرائي الذي حصل في 2012 لربما سيسخطون مما نكتب، لكن في المقابل من انضموا بعد هذا التاريخ للهيئات يؤيدون ما نقول لأنهم متضررون منه.
ولمن لا يعرف -وأشك بأن هناك مواطناً لا يعرف- نبسط الموضوع بالتوضيح أنه من عمل في الهيئات منذ تأسيسها وحتى التقرير بإحالتها تحت ديوان الخدمة، هؤلاء استفادوا من سقوف الرواتب العالية (أعلى من جداول الدرجات الحكومية)، استفادوا من مزايا إضافية مثل التأمين الصحي وحتى اشتراكات النوادي الصحية، وبعضهم (بحسب ما وثقه ديوان الرقابة في تقاريره) درس أبناءه في المدارس الخاصة على حساب الهيئات.
هذه المزايا وجدت للهيئات وخلقت نوعاً من التقسيم الواضح بين القطاعات في الدولة، وحتى أثرت على نفسيات الناس، ومع تكشف كثير من الأمور والتجاوزات الموجودة في تقارير الديوان.
الا أن الوضع الحالي وبعد تحويل الهيئات تحت مظلة ديوان الخدمة المدنية (الا بعض منها التي يبدو أنها لا تمس بغض النظر عن المبررات)، فإن أي موظف جديد يعامل وفق جداول الديوان، ما يعني أنك ستجد في الهيئات موظفين محسوبين على نظام الهيئات القديم وموظفين محسوبين على نظام الخدمة المدنية، ما يعني أنه لدينا موظفون «درجة أولى» وموظفون «درجة ثانية»، إذا تحدثنا بتبسيط شديد.
اللوم لا يقع على موظف سواء حسب الوضع القديم أو الحالي، هي فرص وحظوظ، لكن اللوم يقع على راسمي السياسة وللأسف، إذ واضح تماماً -وهكذا نفسرها- بأنه بعد سنوات «الدعة» في منح الرواتب العالية لمن يستحق أو لا، وبعد المزايا الغريبة والعجيبة، حلت السنوات «العجاف» وبات الصرف والمنح بنفس الطريقة يكلف ميزانية الدولة أموالاً مهولة، وعليه الحل للأسف هو بتغيير السياسة ووضع أخرى لو تم التمعن فيها لن نغفل ملاحظة الوضع المعوق. ولن أزيد هنا بالقول إن هناك حتى محاولات تضييق في بعض الهيئات على من رواتبهم عالية حتى يتركوا مواقعهم بأنفسهم، والهدف واضح بأنه لتقنين الصرف.
هذا الوضع لابد له من تفسير واضح و«صريح»، إذ لا يمكن تغيير سياسات مؤثرة وأساليب عمل لها علاقة مباشرة بالناس هكذا وخلق نوعين من الموظفين في مكان واحد.
حينما تبدأ شيئاً وتصرف عليه الكثير، ثم تأتي في مرحلة زمنية متقدمة لتغير طريقة العمل باعتبارات تقليل النفقات، هنا يقع اللوم على من، على الموظفين الذين لا ذنب لهم بل استفادوا من الظروف، أم على من خططوا لكن لم يكن التخطيط حصيفاً محكماً بحيث لا يستوجب التراجع عنه أو تغييره؟!
طبعاً هذا الكلام «يزعل» بعض المعنيين، لكن من يفترض أن يزعل أساساً هم البشر وقبلهم الدولة نفسها لأن هذه التقلبات لا تقدم صورة إيجابية عنها وعن أسلوب التخطيط فيها.
عموماً، الحل الآن لا يكون «طبعا» بتقليل وضع الموظفين السابقين في الهيئات وسحب المزايا منهم ليتساووا مع الموظفين على الخدمة المدنية، باعتبار أن وضع الموظف في الحكومة لا يمكن أن يقل بل يجب أن يزيد، وعليه المفترض «منطقيا» رفع مستوى موظفي الخدمة المدنية لمساواتهم بالآخرين، أليس كذلك؟!
طبعاً هذا ضرب من الخيال، باعتبار أننا لا نعترف بأخطائنا في التخطيط والتنفيذ، وباعتبار أن هناك «حوائط صد» دائمة ويبدو أنها أبدية اسمها عجز اكتواري وضعف الموازنة. لكننا نقول وعطفا على بعض الأرقام التي نشرت مؤخراً بشأن بعض القطاعات عن تحقيقها أرباحاً يفترض أنها مؤثرة في اقتصاد البلد وميزانيته، نقول هنا تكمن الشطارة والنجاعة في التطوير لأجل المواطن والبلد، لا جعل التطوير ومصلحة المواطن مجرد شعارات.