في السنوات الثلاث الأخيرة انكشف لنا كثير من الأمور الحقيقية، وعرف الجميع المتلاعبين بعقول الشباب وجرهم إلى نفقٍ مظلم لا نهاية له، وأقصد بهم أصحاب الحراك الديني والمتسلطين على الشارع من السلطة الدينية وبعض أذيالهم المنتفعين من مجريات الفوضى العارمة، ومن الواضح أن أنانية هؤلاء المنتفعين تحتل موقعاً كبيراً ومتميزاً في المجتمع الريفي في مملكتنا، وقد تكفلت عواقب الأمور والأحداث بكشف وبيان حجم مؤامراتهم وأنانيتهم، وذلك بعد أن ظهرت صورة أحد رجال الدين وهو يقف على منبر رسول الله ولم يُميز بين الأزمة السياسية والأزمة الأخلاقية، عندما يصف ما يجري من جرائم ليل نهار في شوارع قرى البحرين بأنها أزمة سياسية نتج عنها (أزمة حقوقية وأزمة أمنية)، تلك هي المصيبة العظمى على أهل البحرين ومؤسساتهم.
للأسف هذا ما صرح به الشيخ عبدالله الغريفي في خطبته 12 ديسمبر 2013م وتناقلتها وسائل الاتصال الاجتماعي، مؤكداً بكل ثقة ويقين دون دراسة وتحليل ودون رجوع إلى الواقع المر والمؤلم الذي يعيشه المجتمع البحريني، ومتناسياً عواقب الأمور والأحداث الممتدة منذ 1975 إلى الآن، حيث بدأ خطبته بتساؤل «أين تتجه الأوضاع في هذا البلد؟ الأوضاع السياسية والأوضاع الأمنية والأوضاع الحقوقية.. إلى وين رايحه؟»، سؤال حق ومنطقي يسأله كل مواطن، ثم يكمل «ومازالت المؤشرات في الداخل» ويضع كلمة المؤشرات داخل قوسين ثم يتابع «ومازالت المؤشرات في الداخل تبعث على القلق الشديد ومازالت الأمور تتجه نحو التعقيد»، ثم صمت قليلاً وقال «في البحرين أزمة سياسية وهذه الأزمة السياسية أنتجت أزمة حقوقية وأنتجت أزمة أمنية وأن الأزمة الحقوقية والأزمة الأمنية هما نتاج الأزمة السياسية وإن أردنا أن نعالج المشكلة يجب أن نعالج المشكل السياسي..الخ».. إلى خطبته الطويلة.
نرى أن هذا التصنيف للأزمة البحرينية تصنيف «خطير جداً»، وهو يعني الهروب إلى الأمام خوفاً من تحمل المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتق السلطة الدينية ورجالاتها، وإن كانت السلطة السياسية والشعبية قد تتفقان مع الشيخ عبدالله الغريفي كرمزٍ من رموز السلطة الدينية إلى حدٍ ما في تصنيفه للأزمة، لكن ألا يعلم سماحة السيد أن السلوكيات السيئة والاعتداءات التي يمارسها بعض أهل القرى في قراهم ضد وطنهم وضد أبنائهم أصحاب الفكر المتزن والإصلاح الشامل والمؤيدين للسلطة وللدولة، في تشهيرٍ بسمعتهم وتشويه سيرهم عن طريق التحريض عليهم وشن حرب نفسية عليهم ورفضهم من المجتمع القروي ومؤسساته الدينية والمجتمعية وإعطاء رجال الدين الأوامر بتوجيه الناس البسطاء وحثهم وتحريضهم على مقاطعة هؤلاء الشرفاء مقاطعة تامة ولو حتى بالسلام عليهم.. أليست هذه فتنة تُدمر الأسرة والبيت الواحد والمجتمع والوطن، وقد حرمتها ونهت عنها جميع الأديان!!.
ناهيك عن التخريب للمرافق العامة وخروج الشباب ليلاً ملثمين يغلقون الشوارع والطرقات أمام المارة لنشر الخوف والرعب بين الأهالي المسالمين، ولا يكفيهم ذلك؛ بل يعتدون على كل من يعبر الطريق إلى بيته أو إلى عمله، أليست هذه السلوكيات البغضاوية والعدائية مما يرفضه الله ورسوله والمؤمنون؟!
أليست هذه الأفعال ترفضها الفطرة الإنسانية؟ ثم ألم يكن همكم يا سماحة السيد تفعيل الأخلاق في المجتمع؟ خصوصاً حينما وجهتم إلى عاهل البلاد المفدى همومكم السبعة في بيت السيد علوي الغريفي عندما زاركم جلالة الملك المفدى قبل التوقيع على الميثاق الوطني.
كان من ضمن همومكم التي صرحتم بها أمام جلالته والناس هي النظر في تفعيل الأخلاق بالمجتمع البحريني، إذاً أنتم تعلمون تماماً أن هناك أزمة أخلاقية في المجتمع البحريني! فما الذي حدث كي تعلنوا ما يغالط واقع الصورة الحقيقية لما تمر به البحرين؟ ولماذا حدثت هذه السلوكيات المُسيئة واستمرت إلى يومنا هذا؟!
أين مواقفكم الحرة تجاه هذه الأفعال المُشينة لمدرسة محمد وأهلُ بيته الأطهار؟ ألم تعطيكم القيادة مساحة كبيرة للتعبير عن آرائكم وممارسة شعائركم وحقوقكم الدينية؟َ! إذاً أين دوركم الحقيقي والفاعل في نشر الوعي وتفعيل الأخلاق القرآنية والمحمدية وأخلاق أهل البيت؟ فالأزمة البحرينية هي أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، لأن وجود أزمة أخلاقية في أي بلد لا بد أن ينتج عنها أزمات؛ أولها الانفلاتات الأمنية ومن ثم ضياع حقوق الناس وانتشار الفساد.
من هنأ تأتي مسؤولية السلطة الدينية في تحملها للأمانة من خلال التصدي للأزمة الأخلاقية واحتوائها، وذلك عن طريق تعريفها وتصنيفها بشكل صحيح لا تسييسها والاجترار بها خارج واقعيتها، ومن هنا تنطلق التوعية والبصيرة في فهم الفرق بين الأزمة السياسية والأزمة الأخلاقية لكي يوضع العلاج لها وتُحدد مسؤولية كل سلطة على حدة، لذلك يجب على السلطة الدينية ومؤسساتها ورجالاتها أن ينخرطوا بصدق في عملية البناء والإصلاح والتنمية المستنيرة، وذلك بالتوجه لاحتواء الشباب وتوجيههم تجاه المفاهيم النافعة لهم من أجل بناء مستقبلهم وتوجيه مسارهم نحو منهجية الصالح العام.
فأنتم سلطة دينية مسؤولة أمام الله ورسوله وولاة الأمر، وهي الأمانة التي يجب الحفاظ عليها، إنها أمانة الكلمة والفكر المُتزن والمُلتزم الذي يحقق القاعدة لتقريب الساعة الآتية التي لا ريب فيها، ثم لماذا لم تكن دعواكم إلى التعايش الشعبي في المجتمع كما كان أهل البحرين في السابق؟ وهو العنصر المهم للوجود المشترك بين فئتين مختلفتين تعيشان في بقعة جغرافية واحدة جنباً إلى جنب كشعب مملكة البحرين مثلاً شرط ألا تعتدي إحداهما على الأخرى.
وبسبب وجود الأزمة الأخلاقية التي مرت بالبلاد ودمرت روح التعايش في المجتمع البحريني وشرخت عاداته وتقاليده وموروثه جيلاً بعد جيل ظهرت وانتشرت الأزمة الأخلاقية وكونت الاحتقان الاجتماعي وأورثت الأزمات الأخرى.
فإن للتعايش أُسساً ومبادئ أهمها الإرادة الحرة في المواقف المشتركة بين مكونات المجتمع، بحيث تكون الرغبة في التعايش نابعة من الذات بالفكر المُتزن وليست مفروضة تحت أي ضغط مهما كان مصدره وشروطه ومسبباته، وعليه فإن التفاهم حول الأهداف والغايات أمرٌ في منتهى الأهمية حتى لا يكون التعايش فارغاً من محتواه ولا يوجد فيه تطبيقات عملية ولا يحقق الفائدة المرجوة، لذلك يجب أن تكون النوايا الرئيسة من التعايش بهدف خدمة الأهداف الوطنية السامية وتحقيق الصالح العام من خلال ردع العدوان والظلم الذي يلحق بالأفراد والجماعات، وأن يكون التعاون على العمل المشترك من أجل تحقيق تلك الأهداف المتفق عليها وفقاً للأدوار الملقاة على جميع السلطات في المجتمع وفي ظل هذه الأجواء يصان وينمو هذا التعايش بسياج من الاحترام والتقدير والثقة المتبادلة.
وبذلك لن ينحرف المجتمع عن مساره الصحيح لأي سببٍ من الأسباب، وحتى لا تُغلب مصلحة طرفٍ على آخر ويتم الاحتكام دائماً إلى القواسم المشتركة من القيم والمُثل والمبادئ الأخلاقية التي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها، ويُعزز هذا النزاع بالتزام الجانبين بما اجتمعت عليه إرادة المجتمع في احترام مبادئ القانون.
اليوم لا بد لكلٍ منا أن يختار تفكيره، وسيطول وقوفه في الوصول إلى المصير المجهول الذي ابتكرته للأسف مُخلفات مجريات الأحداث الأخيرة، والتي تبين أن متسببيها لا يملكون مقومات القائد الفذ، بل إنهم أبواق ينعقون فوق المنابر، وأن أقوالهم لا تتوافق مع أهداف المصلحة العامة للوطن والمواطن، ولأن حب الله والوطن خرج من أهدافهم ونواياهم.
إن مشروع حب الله والوطن رحبٌ مترامي الأطراف، ومن الخطأ أن نحدد له سقفاً أو حدوداً مادية، ولا شك أن حب بعض المفردات التي تقدم ذكرها سلفاً قد تصل بصاحبها إلى حد لا يقر له معها إقرار، بل قد يصل به الأمر إلى حدوث المهالك في سبيل ذلك الحب، بينما حب الله والوطن والأرض والناس والأهل هو الذي يجب أن يكون الحب الأوحد في قلب كل إنسان عاش على أرض وطنه لاحتضانه وفوزه بمحبة الله ورضاه.
وعندما نضع أمامنا هذا المفهوم النظري لحب الله عز وجل والوطن إلى جانب المفهوم التطبيقي العلمي والعملي، يمكننا أن ندرك غفلتنا وبُعدنا عن المفهوم الحقيقي والأساسي لضرورة العمل الجاد في مجال عدم تسييس وتشويه الحق المستنير، ولكن للأسف الشديد إن الذين يحركون الشارع في البحرين ومتزعمي الحراك السياسي والديني يعلمون ذلك جيداً بل أكثر من ذلك، ولأنهم منتفعون مادياً وذاتياً ولوجستياً فهم لا يعملون بنظرية حب الله والوطن في باطن الأمور.. والله المستعان على ما يصفون.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}