في مسرحية كنت قد حضرتها في إحدى السنين الماضيات بالمسرح القومي في القاهرة، يصرخ الفنان القدير عبدالرحمن أبو زهرة في أحد مشاهدها وهو يخطب وسط جمع في ساحة عامة في الممثل الذي يقوم بدور المصور الفوتوغرافي قائلاً «فين المصور.. فينك.. مش شايفني بقول كلام كبير؟»، ثم يمسك بيدي المصور ويثبتهما مع الكاميرا في وجهه ويقول له بقوة «صوّر.. صوّر»! منتقداً بذلك المسؤولين والقياديين الذين يقولون كلاماً كبيراً لزوم الصورة ولا يتحمسون للكلام إلا إن توفر المصور والصورة.
ولأن هذا السلوك ليس غريباً على البشر؛ لذلك فإنه ليس بمستغرب رؤية المصورين وكاميراتهم في التجمعات على اختلافها التي تقام في البحرين، والتي يحضرها سين وشين وصاد من «القياديين» الذين يعتبرون أنفسهم في ثورة. وبسبب التطور التكنولوجي فإنه لم يعد مستغرباً أيضاً رؤية كاميرات الفيديو والهواتف المنقولة، ومن ثم رؤية تداول الحصاد عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وصولاً إلى الفضائيات السوسة، التي توظف كل ما يصلها بالطريقة التي تخدم أهدافها وتحقق تطلعاتها.
وبسبب توفر كل هذه الأجهزة والتكنولوجيا في تلك التجمعات الجماهيرية فإن الكلام يكون مختلفاً؛ حماسياً وساخناً.. وكبيراً. بمعنى أنه لو حدث أن أقيمت فعالية ومنع فيها التصوير واستخدام الهواتف المحمولة لهذا الغرض، فإن الكلام يكون عادياً وبعيداً وفاتراً، ما يؤكد أنه ليس الجمهور منفرداً هو من يثير حماس «القيادي» وإنما الكاميرا، ذلك أن الجمهور في غياب الكاميرا لا يمكن أن يحصل على ما يريد وما يطربه من «القيادي» ويفرحه ويجعل «القيادي» نفسه منتشياً.
الكاميرا هي السبب المباشر وراء تورط بعض «القياديين» هنا في تصريحات ما كان لها أن تصدر عنهم لو لم تكن حاضرة. هذا يعني أن «القياديين» يجن جنونهم في حضور الكاميرا وكأنهم لن يجدوا فرصة أخرى كي يستعرضوا فيها عضلاتهم و»يفوشروا» بالكلمتين اللتين يحفظانهما.
اليوم لم يعد أحد يستطيع أن ينتقد الوزراء الذين لا يتنقلون إلا بصحبة المصورين الخاصيـــن والكاميـــرات، ولا أحـــد يستطيـــع أن يلومهم إن رأى صورهم تملأ الصحف والمجلات والنشرات والمطويات والكتيبات والبوسترات، فـ «القياديون والثوريون» الذين يرفعون شعارات الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والمساواة وغيرها من العناوين البراقة صاروا أيضاً لا يتحركون إلا بصحبة المصورين والكاميرات.. حتى في زياراتهم للمقابر!
الواضح أن هؤلاء اكتشفوا لذة فعل الكاميرا متأخرين، ولعــل هــذا يبــرر ظهــورهم كمــا «المتخرعين» الذين لم يروا في حياتهم كاميرا أو كما محدثي النعمة، فيصطحبون معهم المصورين ومختلف أجهزة التصوير في كل مكان، ويصحبون معهم ابتساماتهم التي تصير «ترست» الصورة، من دون أن ينسوا بالطبع الإصبعين اللذين يرسمان بهما علامة النصر!
اليوم لا نستغرب إن رأينا في مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية وغيرها من وسائل الإعلام والتواصل صوراً ولقطات لـ «القيادي الثوري» وهو يسير أو وهو يجلس أو وهو يصافح مواطناً بسيطاً تضرر من أعمال التخريب التي يشملها برعايته، أو وهو يمسح على رأس طفل يقف بجانبه أو يحمله أو يقبله، وصولاً إلى صور له وهو يتوضأ للصلاة أو يصلي. كل هذا لم يعد مستغرباً، ويبدو أنه صار «حقاً» من حقوق «القياديين»، حتى لم يعد وارداً رؤية صورة لمتظاهرين عاديين في مسيرة أو مظاهرة أو اعتصام، حيث الصور فقط لـ «القياديين» الذين يعتبرون أن دورهم ينتهي مع انتهاء المصور من أخذ اللقطة التي يريدون.
اليوم أيضاً لن نستغرب لو رأينا أحد أولئك «القياديين» -وقد شعر أن المصور قد تلكأ في التقاط صورة له- وهو يمسكه من يديه ويثبت كاميرته على وجهه ويقول له منفعلاً «صوّر لا»!