هو ابن مدينتي الصغيرة.. الحد، التقيت به أول مرة في منتصف الستينيات من القرن الماضي عندما دخل علينا الفصل، كان مدرساً ونحن تلاميذ في الصفوف الأولى بمدرسة الحد الجنوبية الابتدائية للبنين، وكما يبدو لنا آنذاك كان الرجل لبقاً وجاداً، وكانت علاقتي به طيلة فترة الدراسة علاقة تقليدية غير متميزة؛ إذ لم أكن أتصور قط أن هذا المدرس تحديداً سيصبح يوماً ما أخاً عزيزاً وصديقاً حميماً ورفيق درب.
نحمد الله أن الذاكرة مازالت تحمل أسماءً ووجوه الكثير من المدرسين الأفاضل الكرام في كل المراحل التعليمية، نتذكرهم جميعاً من غير استثناء، ونتذكر أحداثاً ومواقف جميلة حدثت معهم أو بحضورهم قبل أربعين أو خمسين عاماً وكأنها حدثت بالأمس، إلا أن هذا المدرس العزيز لم يكن لي معه وأنا تلميذ ثمة موقف أو حكاية أبداً، وكأنما أريد لها أن تتأجل جميعها إلى أيام أو سنوات قادمة.
تمر السنون تلو السنين وتتبدل المواقع وتتنوع العلاقات، وتجمعني مع الرجل إلى جانب الأفكار والآراء والميول مواقف وأحداث وحكايات كثيرة ورائعة، ومن غير الممكن اختزال علاقة امتدت لسنوات طوال في سطور معدودات، خصوصاً أن الرجل لم يكن مجرد صديق؛ إنما كان بالنسبة لي أخاً كبيراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ذلك أنه كثيراً ما ذهبنا معاً وزرنا معاً وتجولنا معاً، وكثيراً ما عاضدني وأيدني ووقف بجانبي وقوف الرجال الأوفياء المخلصين، وطالما كان أول المهنئين لي في المناسبات السعيدة العامة والخاصة، وطالما لجأت إليه أطلب رأيه في مسائل يهمني فيها سماع رأيه، وبداخله إنسان وديع لطيف متسامح، حتى عندما تختلف معه وتزعل كان زعله هادئاً وجميلاً مثله، اليوم فقدت ذلك كله.
أما على صعيد العمل العام؛ فقد كان الرجل أحد مؤسسي جمعية الحد التعاونية الاستهلاكية، وواحداً من القيادات التعاونية المخلصة، وفي العام 1985 تشرفت لأول مرة بالعمل معه في مجلس إدارة الجمعية، ومنذ ذلك الحين فإن كل مشاركاتي في مجالس إدارة الجمعية أوالنادي كانت مع أبي مهنا، وما يستحق ذكره هنا أن الرجل كان مرشحاً في ذلك العام من قبل أغلب أعضاء مجلس الإدارة لأحد المنصبين؛ إما الرئيس أو نائب الرئيس، وهو يستحق هذا بجدارة لقدراته وخبراته، ولكن حين توزيع الأدوار بيننا اعتذر بأدب جم واكتفى أن يكون عضواً، وذلك لشعوره -مجرد شعور- أن ثمة من هو أقدر وأحق منه، وفي تقديري أنه رغم بساطة الموقف ولكنه يحمل دلالة كبرى ويعبر تعبيراً حقيقياً عن معدن هذا الرجل، موقف لا يتبناه إلا الأشخاص الذين يسعون من أجل خدمة الناس لا من أجل ذواتهم وهم قلة في هذا الزمن.
وبفضل من الله ثم جهود الأخوة في المجلس وفي طليعتهم أبي مهنا، كانت تلك الفترة من أزهى الفترات التي عاشتها الجمعية، فقد كانوا بحق امتداداً للرعيل الأول الذين أعطوا للجمعية الكثير، وقد استطاع المجلس حينذاك أن يحقق أعلى الأرباح على امتداد السبعينيات والثمانينيات، كما استطاع التوسع في الخدمات والبضائع والاهتمام بالجوانب الإعلامية والتوعوية، وتمكن من تأسيس علاقات وثيقة مع مختلف الجمعيات التعاونية الاستهلاكية وغير الاستهلاكية شكلت فيما بعد أرضية للعمل التعاوني المشترك.
وتكرر ذات المشهد ثانية أو قريباً منه؛ فقبل ثلاث سنوات عادت بعض القيادات التعاونية، وفي مقدمتهم أبي مهنا إلى إدارة الجمعية، حيث حققوا نتائج مالية لم تتحقق على امتداد تاريخ الجمعية الطويل، بالرغم من صعوبة الظروف المحيطة بالجمعية.
ومع ذلك لم تكن الجمعية التعاونية هي التي تشغل بال الرجل فحسب؛ فقد كان من قيادات نادي الحد الرياضي والثقافي، حيث دخل في عضوية مجلس إدارة النادي مرات عدة وعلى فترات متقطعة، وآخرها كان رئيساً لمجلس إدارة النادي في مرحلة هي من أعتى المراحل التي مرت على النادي، وهي مرحلة الدمج مع الأخوة في نادي قلالي ثم الانفصال وما صاحبهما، وكنت معه في ذات المجلس وعايشت الأوضاع عن قرب، وبالرغم من صعوبتها وتعقيدها إلا أنه أدار الدفة كما ينبغي أن تدار.
خلاصة القول أن ثمة علاقة وطيدة تربط الرجل بالجمعية والنادي معاً امتدت لسنوات طويلة، علاقة ليست بمثل تلك العلاقات الهشة المصطنعة التي تنتهي بزوال المبرر أو زوال المصلحة، ولقد أثبت أبو مهنا دون أقل قدر من الشك أنه أهل لهذا كله، ومن يعرف أبا مهنا عن قرب يعرف أنه رجل نظيف اليد ويحب خدمة الناس، ولا ينتظر من وراء خدماته مقابل مادي أو معنوي، ورجل لا يحب التسلط أو تجاوز الآخرين، كما لا يحب العمل تحت الأضواء كحال الكثيرين؛ وإنما يعمل بصمت ودونما ضجيج، وهو صريح في التصدي للمشكلات والأخطاء ولا ينسب الإنجازات لنفسه والإخفاقات لغيره أبداً، فضلاً عن كونه شديد الاعتداد برأيه دون تعصب ولا يقبل إلا بما تمليه عليه قناعاته.
اليوم وبعد مرور شهر ونيف على رحيله نقول؛ سيظل مكانه بيننا شاغراً لن يملأه أحد، والحق أننا لسنا وحدنا، أهله وذويه وأصدقائه وأحبته، الجميع حزين عليه وإنما حتى الطريق الذي يسلكه يومياً مشياً على قدميه وحتى مجلس صديقه وحبيبه وخليله الذي لم يتغيب عنه قط وحتى الجمعية والنادي جميعهم حزينون عليه لأنهم فقدوا رجلاً من خيرة الرجال.
رحمك الله يا أستاذي وصديقي وأخي الكبير محمد بن مهنا الشايجي رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته.
{{ article.visit_count }}
نحمد الله أن الذاكرة مازالت تحمل أسماءً ووجوه الكثير من المدرسين الأفاضل الكرام في كل المراحل التعليمية، نتذكرهم جميعاً من غير استثناء، ونتذكر أحداثاً ومواقف جميلة حدثت معهم أو بحضورهم قبل أربعين أو خمسين عاماً وكأنها حدثت بالأمس، إلا أن هذا المدرس العزيز لم يكن لي معه وأنا تلميذ ثمة موقف أو حكاية أبداً، وكأنما أريد لها أن تتأجل جميعها إلى أيام أو سنوات قادمة.
تمر السنون تلو السنين وتتبدل المواقع وتتنوع العلاقات، وتجمعني مع الرجل إلى جانب الأفكار والآراء والميول مواقف وأحداث وحكايات كثيرة ورائعة، ومن غير الممكن اختزال علاقة امتدت لسنوات طوال في سطور معدودات، خصوصاً أن الرجل لم يكن مجرد صديق؛ إنما كان بالنسبة لي أخاً كبيراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ذلك أنه كثيراً ما ذهبنا معاً وزرنا معاً وتجولنا معاً، وكثيراً ما عاضدني وأيدني ووقف بجانبي وقوف الرجال الأوفياء المخلصين، وطالما كان أول المهنئين لي في المناسبات السعيدة العامة والخاصة، وطالما لجأت إليه أطلب رأيه في مسائل يهمني فيها سماع رأيه، وبداخله إنسان وديع لطيف متسامح، حتى عندما تختلف معه وتزعل كان زعله هادئاً وجميلاً مثله، اليوم فقدت ذلك كله.
أما على صعيد العمل العام؛ فقد كان الرجل أحد مؤسسي جمعية الحد التعاونية الاستهلاكية، وواحداً من القيادات التعاونية المخلصة، وفي العام 1985 تشرفت لأول مرة بالعمل معه في مجلس إدارة الجمعية، ومنذ ذلك الحين فإن كل مشاركاتي في مجالس إدارة الجمعية أوالنادي كانت مع أبي مهنا، وما يستحق ذكره هنا أن الرجل كان مرشحاً في ذلك العام من قبل أغلب أعضاء مجلس الإدارة لأحد المنصبين؛ إما الرئيس أو نائب الرئيس، وهو يستحق هذا بجدارة لقدراته وخبراته، ولكن حين توزيع الأدوار بيننا اعتذر بأدب جم واكتفى أن يكون عضواً، وذلك لشعوره -مجرد شعور- أن ثمة من هو أقدر وأحق منه، وفي تقديري أنه رغم بساطة الموقف ولكنه يحمل دلالة كبرى ويعبر تعبيراً حقيقياً عن معدن هذا الرجل، موقف لا يتبناه إلا الأشخاص الذين يسعون من أجل خدمة الناس لا من أجل ذواتهم وهم قلة في هذا الزمن.
وبفضل من الله ثم جهود الأخوة في المجلس وفي طليعتهم أبي مهنا، كانت تلك الفترة من أزهى الفترات التي عاشتها الجمعية، فقد كانوا بحق امتداداً للرعيل الأول الذين أعطوا للجمعية الكثير، وقد استطاع المجلس حينذاك أن يحقق أعلى الأرباح على امتداد السبعينيات والثمانينيات، كما استطاع التوسع في الخدمات والبضائع والاهتمام بالجوانب الإعلامية والتوعوية، وتمكن من تأسيس علاقات وثيقة مع مختلف الجمعيات التعاونية الاستهلاكية وغير الاستهلاكية شكلت فيما بعد أرضية للعمل التعاوني المشترك.
وتكرر ذات المشهد ثانية أو قريباً منه؛ فقبل ثلاث سنوات عادت بعض القيادات التعاونية، وفي مقدمتهم أبي مهنا إلى إدارة الجمعية، حيث حققوا نتائج مالية لم تتحقق على امتداد تاريخ الجمعية الطويل، بالرغم من صعوبة الظروف المحيطة بالجمعية.
ومع ذلك لم تكن الجمعية التعاونية هي التي تشغل بال الرجل فحسب؛ فقد كان من قيادات نادي الحد الرياضي والثقافي، حيث دخل في عضوية مجلس إدارة النادي مرات عدة وعلى فترات متقطعة، وآخرها كان رئيساً لمجلس إدارة النادي في مرحلة هي من أعتى المراحل التي مرت على النادي، وهي مرحلة الدمج مع الأخوة في نادي قلالي ثم الانفصال وما صاحبهما، وكنت معه في ذات المجلس وعايشت الأوضاع عن قرب، وبالرغم من صعوبتها وتعقيدها إلا أنه أدار الدفة كما ينبغي أن تدار.
خلاصة القول أن ثمة علاقة وطيدة تربط الرجل بالجمعية والنادي معاً امتدت لسنوات طويلة، علاقة ليست بمثل تلك العلاقات الهشة المصطنعة التي تنتهي بزوال المبرر أو زوال المصلحة، ولقد أثبت أبو مهنا دون أقل قدر من الشك أنه أهل لهذا كله، ومن يعرف أبا مهنا عن قرب يعرف أنه رجل نظيف اليد ويحب خدمة الناس، ولا ينتظر من وراء خدماته مقابل مادي أو معنوي، ورجل لا يحب التسلط أو تجاوز الآخرين، كما لا يحب العمل تحت الأضواء كحال الكثيرين؛ وإنما يعمل بصمت ودونما ضجيج، وهو صريح في التصدي للمشكلات والأخطاء ولا ينسب الإنجازات لنفسه والإخفاقات لغيره أبداً، فضلاً عن كونه شديد الاعتداد برأيه دون تعصب ولا يقبل إلا بما تمليه عليه قناعاته.
اليوم وبعد مرور شهر ونيف على رحيله نقول؛ سيظل مكانه بيننا شاغراً لن يملأه أحد، والحق أننا لسنا وحدنا، أهله وذويه وأصدقائه وأحبته، الجميع حزين عليه وإنما حتى الطريق الذي يسلكه يومياً مشياً على قدميه وحتى مجلس صديقه وحبيبه وخليله الذي لم يتغيب عنه قط وحتى الجمعية والنادي جميعهم حزينون عليه لأنهم فقدوا رجلاً من خيرة الرجال.
رحمك الله يا أستاذي وصديقي وأخي الكبير محمد بن مهنا الشايجي رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته.