يسألني الكثيرون عن مدى مصداقية القصص التي أسردها في بعض مقالاتي. وأنا أؤكد أن جميعها حقيقية، وأني كثيراً ما أضطر إلى شطب بعض معاناة أصحابها كي لا أتهم بالمبالغة. فكم في هذه الحياة من مآسي تفوق خيالنا، وكم من الصامتين حولنا لا نعرف حجم الجحيم المتقد في ضمائرهم.
مازالت قصتها تؤثر في، ومازال في أعماقي حنين فضولي لأعرف كيف تعيش الآن مريم حياتها. حين التقيتها، في شقق سكنية، خارج البحرين، لفت انتباهي نظرة الغضب الخفي المستقرة بين حاجبيها والبثور المتهيجة التي تملأ وجهها. لكن لطفها في التعامل معي كان كفيلاً بألا أقلق من سلوكها المزاجي الذي يعاني منه الآخرون. في إحدى جلسات (النميمة) المسائية، وبتلقائية شديدة، أفشت إحداهن سر مريم الذي يكتمه المقربون منها. إنها فتاة (لقيطة) تربت في الملجأ وقد غادرته منذ عامين حين أنهت الثانوية العامة، وهي تغير مكان عملها بين فترة وأخرى حتى تجد العمل المناسب لها. كانت صدمة شديدة لي، فحياة الأيتام والملاجئ عالم مجهول لم أختبر نفسية ساكنيه ولم أتعامل مع أحدهم قط.
حين خرجت ذات صباح من مكان سكني وجدتها تجلس مع صديقاتها وامرأة غريبة. وحين عدت مساء أخبرتني الزميلة نفسها التي أفشت السر سابقاً بأن مريم كانت تجلس اليوم مع (أمها) بعد أن تمكنت من العثور عليها، لم تخبرني كيف اهتدت إلى أمها، لكنها أخبرتني بأن الجلسة كانت قاسية جداً ومؤلمة. فقد أخبرتها والدتها بأنها ابنة غير شرعية، وأن أمها قد أنجبت جميع أبنائها سفاحاً من رجال مختلفين تعرفهم جميعاً إلا ابنها الأصغر فهي لم تتمكن من (تمييز) والده؛ ولذلك فهي تسميه (ابن الشعب). أصيبت بعدها مريم بانهيار حاد وبكت كثيراً. كانت تقول: كان عندي أمل أن أنتسب لعائلة لم أتوقع أن القدر سيفجعني بأني (ابنة حرام) وأن أمي زانية!!
بعد عدة أيام التقيت مريم كانت البثور على وجهها قد تهيجت بصورة غير طبيعية قلت لها: مريم سلامات وجهك ملتهب!!. قالت لي: لا عادي... البثور تتهيج بين وقت وآخر، ربما أكون نمت ولم أغسل وجهي من المكياج. كانت تبدو طبيعية، لقد اعتادت ملامحها على قسوة الزمن فلم تعد تشي بمشاعرها. بعد عدة أيام عرفت أنها اهتدت إلى أبيها عن طريق والدتها وأن والدها تقبلها وأبدى استعداده لإجراء فحص (DNA) والاعتراف بها ومنحها اسمه. وفعلاً تم ذلك... ويبدو أن أمور مريم بدأت في التحسن.
حين التقيتها ذات مساء كانت فرحة وقالت لي سأريك شيئاً: كانت دبلة خطوبة!! قالت لي إن زميلها الذي تعمل معه في المطعم سيخطبها، هو يتمم دراسته ووالده معلم يعمل في الخارج. وأنه سيلتقي والدها بعد غد ليخطبها منه. فرحت لها كثيراً ولاحظت أن البثور في وجهها قد خفت بشكل ملحوظ، سألتها كيف عالجت البثور: فأجابت إنها خففت المكياج.
في يوم خطبتها كنت مشغولة صباحاً ولم أعد إلا في المساء، وحين التقيتها قلت لها: أبشري خبريني بما حصل؟ قالت لي: ولا شي. قلت: كيف ولا شي؟ هل تمت الخطبة؟ قالت لي : لا، ذهبت أنا ووالدي للقائه هو ووالده، لكنهما لم يحضرا. قلت لها ربما حدث لهما أمر طارئ هل اتصلت به؟ قالت: اتصلت به وبأصحابه الذين أعرفهم جميعهم كانت هواتفهم مغلقة. لم أستطع الاسترسال معها فهي لا تعلم أني قد عرفت قصتها، لكني خففت عنها وقلت لها الخير فيما اختاره الله. الحمدلله على كل حال. ابتسمت باسترخاء وقالت: ليس عندي مشكلة عادي كله خير.
بعد عدة أيام رأيت مريم كانت البثور قد تفجرت في وجهها وتهيجت أكثر من أي وقت مضى. ولم أسألها لأني أدركت أن البثور في وجهها هي سورة الغضب الذي يعتمر في أعماقها تجاه هذا العالم الذي قسا عليها دون ذنب اقترفته. هذا الواقع الذي تعيشه ويحرمها حتى من إمكانية البوح والتعبير عن غضبها أو حزنها أو احتجاجها تجاه أي معاناة جديدة تحصدها نتيجة وضع اجتماعي وإنساني لم تختره وليست مسؤولة عنه. فهناك مجموع من البشر قدرهم أن يسددوا فاتورة أخطاء غيرهم من رصيدهم المتواضع من السعادة والأمل والمستقبل.