ليس من السهل أبداً الحكم على ما يجري من أحداث في العراق بعد عملية «احتلال» الموصل، لأن «التعمية» الإعلامية في العراق توازي التعمية ذاتها التي حصلت في الثورة السورية ولكن في اتجاهين مختلفين. أقول تعمية إعلامية لأن القضية العراقية اليوم يتصدرها صناعة أحداث وشحن طائفي ومذهبي وفبركة أفلام. وتوجيه رأي عام في اتجاه واحد فقط عبر أمبراطوريات إعلامية تحكمت بمصير المنطقة في السنوات السابقة. ويبدو أن الهدف مازال ثابتاً وهو جر المنطقة إلى حرب طائفية كونية.
كيف نقرأ أحداث العراق؟ من هو الطرف المحوري المحرك للأحداث؟ وكيف نفسر ردود الأفعال الدولية والإقليمية لدول مثل إيران وتركيا وأمريكا؟ ما يرشح من أخبار حول أحداث العراق يدور في سيناريوهين: الأول أن تنظيم داعش التابع لتنظيم القاعدة قد فر من سوريا وتمدد في العراق وتمكن من السيطرة على المناطق السنية وهو في طريقه إلى التهام باقي العراق. السيناريو الثاني أن إرهاصات الثورة «السنية» التي شكلتها العشائر العراقية عام 2011 ضد نظام المالكي الطائفي المدعوم إيرانياً وأمريكياً، قد نضجت ونظمت صفوفها واستعانت بقيادات مؤهلة من الجيش العراقي السابق وهو من يحرز الانتصارات والتقدم ويزحف حالياً إلى أبواب بغداد.
وبمناقشة السيناريو الأول؛ فإن اختراق القاعدة للثورة السورية وتشكل كيانات جهادية ذات أهداف متطرفة اختطفت الثورة السورية وحرفتها عن مسارها، تم إثباته عن طريق البيانات الرسمية التي أصدرتها القاعدة ومختلف فلولها اللاعبة في سوريا، ومنها التسجيلات الصوتية المتعددة لزعيم القاعدة أيمن الظواهري التي بايع فيها الجولاني زعيم جبهة النصرة والتي حاول أن يصلح فيها بين الجولاني والبغدادي زعيم داعش.
كما إن المواقع الإلكترونية لجبهة النصرة وداعش هي التي كانت تبث الأفلام المصورة حول إقامة الحكم الإسلامي في الرقة وفي حلب ومنها مظاهر إقامة الحدود وإعدام المخالفين وقطع الرؤوس وأكل القلوب. وكذلك المراسلات المكتوبة التي كانت تتضمن مساجلات ومناظرات بين كافة الفصائل المتأسلمة المتناحرة في سوريا التي كان أحد باثيها النائب الكويتي د.وليد الطباطبائي المرابط في حلب.
كل ذلك لما يتكشف في العراق، على الرغم من بث بعض الصور الفوتوغرافية والقليل من الأفلام المصورة لمسلحين ملتحين يحملون علم القاعدة الأسود. لحد الآن تنظيم داعش في العراق الذي يروج أنه هو من احتل الموصل وتقدم نحو تكريت، لم يكشف عن أسماء قادته، ولم يصدر بياناً صوتياً ولم يعبر الظواهري عن موقفه منه. القراءة السابقة لا تلغي وجود تنظيم القاعدة في العراق وتأثيره ونفوذه، لكن كيف نؤكد أن داعش هي المسيطرة على كافة مجريات الأحداث في العراق، وأنها هي القوة رقم واحد المسيطرة على المناطق السنية التي خرجت اليوم عن سيطرة حكومة المالكي.
السيناريو الثاني حول تفجر ثورة «سنية» ضد نظام المالكي الطائفي تديره العشائر العراقية ويقوده ثلة من قادة الجيش العراقي السابق والجيش النقشبندي بزعامة عزت الدوري، سيناريو يفتقد إلى كثير من الأدلة ويواجه محاذير كبيرة. وربما كان الاعتراف الأكثر موضوعية بهذه «الثورة» وأهدافها، هو بيانات هيئة علماء المسلمين في العراق التي يتزعمها الشيخ حارث الضاري، والتي تنشرها عن طريق قناة الرافدين التي تبث إرسالها من الأردن. وكان آخر بيان قد أصدرته الهيئة بتاريخ 12 يونيو الجاري الذي تبنى الثورة ضد المالكي وفند مزاعم نسبتها إلى فصيل معين بغية ضرب الثورة واجتثاثها، كما تضمن البيان «12» وصية للثوار، أهمها استيعاب الآخر ونبذ الخلاف والطائفية وحفظ حقوق الآخرين وخصوصاً المخالفين والأقليات. وإذا كان ذلك كذلك، هل ستتمكن الثورة ذات الطابع السني، الذي ظلم طويلاً في العراق وهضمت حقوقه في كل العمليات السياسية في العراق، من التحول إلى ثورة «وطنية» قادرة على استقطاب كافة مكونات الفسيفساء العراقية؟ وهل ستكون الثورة أداة في إعادة بناء العراق وتوحيده أم ستكون مبرراً واقعياً لتقسيمه؟
وأياً كانت السيناريوهات المفسرة لما يجري في العراق. هل ستنتهي الأحداث باستدراج إيران للتورط في الحالة العراقية ومن ثم تدخل حلف النيتو، كما يطالب رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، بالتالي دخول المنطقة في حرب طائفية دولية كونية؟ وما تأثير كل ذلك على دول المحيط خصوصاً الكويت والسعودية؟ وما نهاية الصمت العربي المدوي لتطور الأحداث في العراق إلى منزلق خطير ومرعب؟ لقد بات التخاذل العربي والموت الإكلينيكي للجامعة العربية جزءاً أصيلاً من النكبة العربية الجديدة ومدداً للكوارث العربية المتتالية التي صرنا نسقط فيه تباعاً.