أسعد دائماً حينما أشارك في مؤتمرات عالية المستوى معنية بالتطوير وتحسين الأداء، وأكن شديد الاحترام لها خاصة إن كانت تجمع أطرافاً دولية (ليس فقط عربية) تتحدث عن تجاربها الواقعية بشأن التغيير والتطوير، خاصة أننا كمجتمعات عربية نؤمن بالنظريات ككلام فقط وشعارات رنانة، لكن قليل من يسعى لتطبيقها على أرض الواقع، في حين أن الغرب وبعض المجتمعات العربية التي سعت للتطور خطت خطوات كبيرة جادة وفاعلة في هذا الاتجاه.
حالياً أتواجد في مدينة إفران المغربية لحضور الكونجرس الدولي السنوي لمعاهد الإدارة العامة في العالم، والجميل في الأمر أن غالبية المتحدثين قامات عالمية ذات وزن ثقيل في وضع النظريات ورسم أفضل الممارسات بشأن التغيير وتحسين أداء القطاعات سواء حكومية وخاصة.
البحرين لها حضور في المؤتمر من خلال معهد الإدارة العامة، والجميل أن لها احتراماً وتقديراً ليس على المستوى العربي في هذا الجانب (أي الإدارة والتطوير كمنهاج تعلم وممارسة) بل حتى من الدول الغربية التي أشادت بجهود البحرين عبر المعهد، وثمنت تأسيس أول منظمة إقليمية للبحوث العلمية قبل شهر على أرض البحرين.
قد يستهين البعض بعلوم الإدارة العامة، وقد لا يرى كثيرون ومنهم للأسف قادة لقطاعات المجتمع أهمية قصوى لمعاهد الإدارات العامة المعنية بتدريب وتطوير الكوادر وتأهيلها أو التي تركز أيضاً في جوانب البحوث العلمية والاستشارات الاحترافية، وهذا هو الخلل الذي يعيق تقدم المجتمعات العربية ومن ضمنها مجتمعنا البحريني.
نحن لا نقدر العلم حق قدره، رغم أننا الأمة التي نورت بعلومها الغرب حينما كان يعيش في الظلام، ورغم أننا من تستهوينا الشعارات الجميلة بشأن التعلم والتغيير والتطوير. من لا يقدر العلم والتدريب المستمر والتطوير الذاتي والجماعي صعب جداً، عليه أن يتحرك أنملة واحدة «صحيحة» باتجاه التغيير أو تحسين الأداء.
المثير كان الإطلاع على التجربة الصينية «المذهلة» التي استعرضها الوزير الصيني المعني بالإدارة العامة في بلد يضم أكثر تعداد سكاني على هذا الكوكب، وفي بلد يعتبر اليوم قوة اقتصادية ضاربة، لم يهتز ويتأثر حينما اهتزت دول عالمية عظمى كالولايات المتحدة حينما عصفت بها الأزمة المالية.
الصينيون استثمروا في البشر قبل أن يستثمروا في أية أمور أخرى، مثلهم فعل اليابانيون بعدما دفعوا ضريبة باهضة حينما كانوا ترسانة عسكرية، حينما أسقطت عليهم الولايات المتحدة القنابل الذرية لا لتنسف أمة حينها، بل لتحول اتجاهها من التسلح والعسكرة إلى التعلم والتطوير واليوم واشنطن هي المتحسر على ما فعلته باليابان التي تبهر العالم بكل جديد وذكي.
في الصين التي يقطنها قرابة الملياري صيني، لا يتم تعيين أي شخص في الدولة من خلال قطاع الخدمة المدنية إلا بعد أن يخوض اختبارات محكية تكشف قدراته وتبين مدى أهليته، لا يتم منح أحد موقعاً وظيفياً في الدولة (والناس هناك تتعارك لمجرد الحصول على أي وظيفة) لا يتم منحه هذا الموقع إلا بعد تدريب وتأهيل يطور من قدراته ويؤهله ليكون عضواً فاعلاً منتجاً من الموقع الذي سيخدم المجتمع فيه. هناك يشددون على أن الوظيفة لخدمة المجتمع لا الذات، بالتالي هناك اختبارات طويلة يخضع لها المتقدم للوظيفة. فالدولة لا وقت لديها لتتحمل عبء موظفين لا ينتجون، لا يعملون، وفي المقابل من ينجح في الوصول للوظيفة هم متأكدون بأنه يستحق كل فلس يمنح له لأنه سيعطي في المقابل، ولأن الموظفين هناك يعطون فإن التطوير الشخصي مهيأ لهم والترقيات مبنية على أسس علمية وثوابت إدارية، باعتبار أن لكل مجتهد نصيب.
بين 1994 إلى 2013 وظفت الصين بليوناً و300 مليون شخص في الخدمة المدنية، وكل من تم توظيفهم خضعوا لاختبارات تدقيق وتقييم وكلهم مدربون ومؤهلون لشغل مواقع العمل والعطاء فيها بكفاءة. والدولة هنا على كبرها وترامي أطرافها لا تتحرك إلا بناء على معايير الإدارة العامة الموضوعة، لا تتجاوزها ولا تخرقها بالواسطة أو غيرها من الأمور التي تقفز على الإجراءات الصحيحة العادلة.
يقول الوزير الصيني إن اعتمادية دولته اعتمادية كاملة على التغيير من خلال معاهد الإدارة العامة وبناء على ما تقدمه من تدريب وتطوير ومعلومات هي مبنية على احتياجات الواقع العملي وهي أصلاً مستمدة من مسح واقعي لمواقع الخلل والقوة في الدولة وقطاعاتها.
بالضرورة تحترم تجارب هذه الدول، ولعلي اخترت الصين كمثال لا لأنني فقط انبهرت بكيفية إدارة هذا الكم الضخم الملاييني من الطاقات البشرية، بل لأنه حتى الدول العظمى تدرك وتقولها بصراحة بأن القوة اليوم هي بتطوير المجتمعات وتطويرها لا يتأتى إلا بتطوير الأفراد الذين هم الأساس الذي سيدير موارد البلد البشرية، ومن سيخطط لها اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً.
للأسف نرى التجارب ناجحة في الغرب، ولدينا في العالم العربي وحتى في واقعنا المحلي كل ما نفعله بشأن عملية تطوير الأفراد وتأهيلهم من خلال التدريب والإرشاد والتوجيه، هو القول بأن «العلم نور» وأننا «نطلب العلم من المهد إلى اللحد»، بينما كثيرون قضوا سنوات حياتهم أقلها من بعد الدراسة حتى اللحد دون أن يفتحوا كتاباً واحداً بحثاً عن معلومة أو سعيا لتطوير مداركهم.
نعم العلم نور، لكن ليس لدينا، نحن لدينا «نور ومهند» فقط، إلا من رحم ربي!