البعض، من فرط ما «انغمس» حتى نخاعه في «هوس» السياسة، بات يستصغر الحديث في القضايا المجتمعية، ويراها «قشوراً» دون مستوى النقاش، توافه لا يجب الوقوف عندها أو المرور عليها مرور الكرام!
المعيار الأوحد لدى هذه الفئة -فيما يتعلق بتصنيفات الحديث والاهتمام- هو السياسة، ولا شيء غيرها! المهم لديهم، ماذا يحصل داخلياً -لكن فقط سياسياً- من أمور ظاهرة وخفية؟! ماذا يحصل في العراق؟! وماذا تفعل أمريكا مع إيران؟! وهل أنت مع السيسي أم مع مرسي، ولماذا، وكيف وهل.. إلخ؟!
النظر للخارج قبل النظر والتمعن في البيت الداخلي مسألة تفضي إلى التعب وتنتهي بالهلوسة. وحتى في النظر إلى الداخل، هناك أمور تتقدم على أمور!
بالحديث عن تقديم الأمور، فقد كان مبرراً في عام 2011 والعامين اللذين تلاه أن يخوض الناس خوضاً عنيفاً في حديث السياسة والسجال على الساحة بين دولة وجمعيات ومعارضة وانقلابيين. وبات طبيعياً أن يكون ديدن أغلب المواطنين الحديث عن السياسة واستقراء المستقبل، وكان إيجابياً أيضاً التذكير بين الفينة والأخرى بأن الهدوء وإن تم بشكل نسبي فإن هذا لا يعني الركون وتغافل ما يطبخه ويحيكه البعض.
لكن المشكلة أنه حينما ينجرف المجتمع وبشكل قوي ولافت إلى نسيان وتجاهل كل أمر آخر، ووضع السياسة كقوت يومي وكهاجس لحظي يؤثر على أي حراك وتوجه وعمل، بل يصل للتأثير على الوضعية الطبيعية للتنفس لدى البعض!! والله هنا لا نبالغ، فالبعض بات لا يريد الحديث إلا في هذه الأمور، ولا يعنيه أمور أخرى سواها. هنا تكون كارثة!
خطأ أن تتوقف الحياة وتتجمد لدى ما حصل في 2011، لكن هذا لا يعني أن يتم مسح ما حصل في ذات العام وما أعقبه، هذا خطأ أكبر، لأنه تصفير العداد ومسح ما حصل هكذا بدون أي إجراءات يفرضها القانون يعني بأن الدولة مستعدة لتلقي ضربة أعنف وأغدر من السابقة.
بيد أن الخطأ الذي نعنيه هو أن يكون هاجس العيش في جلباب الأزمة (أو بالأصح الانقلاب) سبباً في توقف عقارب الساعة لدى الناس ولدى الدولة، وأن يجمد كل شيء، وأن يكون كل تحرك وحراك وعمل مرهوناً بالماضي.
نبحث عن التقدم المؤثر في عمل الدولة، في الخدمات المقدمة للمواطنين، في تحسين أمورهم، وفي اقتراح المشاريع وسن القوانين، فنستغرب من بطء الوتيرة، وكأن لا اهتمام هناك، ولا دافعية باقية، ولا أهداف مرصودة. وكأنه -بصريح العبارة- يراد لهذه البلد أن تتوقف، أن تتعثر أية مشاريع، باعتبار -وهذه فرضية قد تكون خاطئة- أن الاستفادة لا يجب أن تطال الجميع، وأن من أساء للوطن لا يستحق خيره! طيب إن كان ذلك صحيحاً -على سبيل الافتراض- فما هو ذنب المخلصين المحافظين على واجباتهم تجاه بلدهم، ما ذنبهم ليطالهم ضرر التأخير والانتظار والتعطل؟! عموماً الفكرة بحد ذاتها غير مقبولة، أن تؤخذ فئة بجريرة أفراد، لكن عوضاً عنها طبقوا معادلة المواطن الصالح والآخر الطالح بحيث يأخذ كل مستحق لحقه ويحرم منه من يتجاوز واجباته ويتعدى على قانون الدولة!
في جانب آخر وأهم، كثير من الناس بات لا يريد المضي قدماً، بحيث يكون تركيزه الأكبر على الدعوة لتطوير الممارسات وتجويد العمل الحكومي، والمطالبة بتحسين وضع الناس، وهذه مسألة خطيرة، إذ لا يمكن التعويل على أن حسم الوضع السياسي هو الأهم من تصريف أمور الدولة وتطويرها وتحسين وضع أهلها، بل الواقع يقول بأن الوضع السياسي هو «المعطل» لكل هذه الأمور، فهو أصلاً لا يمثل مشكلة رئيسة في البلد؛ فالوفاق كرتها محروق وتنازع فيما تبقى لها من مساحة، والدولة لو أرادت حسم الأمور لحسمتها منذ زمن، لكن التعطيل هو ما يبعث على التوجس، وهو ما يغمس كثيراً من الناس أكثر في السياسة تخوفاً من مفاجآت في المستقبل، وهنا نمنحهم العذر للقلق، لا العذر للجمود على الوضع الحالي.
من يصر على «العيش في جلباب الأزمة والانقلاب» عليه إعادة حساباته. الانقلاب فشل، والأزمة انتهت، ومن يحاول إحيائها هو المستفيد من استمرارها، وهنا نعني الوفاق ومن معها، أو من يريد أن يتكسب من ورائها ممن خلطوا الولاء للوطن بالولاء للنفس والذات. الأزمة انتهت، وما يحصل الآن هو عمليات استنهاض لها. إن كانت الدولة تحاول أن تناور مناهضيها، فالمواطن عليه أن يكون هو العنصر الحاسم وهو الرقيب وهو صاحب الرأي الحاسم، لكن عليه أن يفعل ذلك وهو يمارس حياته الطبيعية، يساهم في بناء وطنه، يعيش وقته، أن يجعل أية توافقات وحلول أو تفاهمات تدور حوله هو، لا أن يكون هو الدائر حولها المنشغل المغموس بها.
ما يحصل اليوم، ليست أولوية، وليست مسألة تعطل سير البلد وحياة أهلها، أصحاب هذه الفوضى هم من يريدون أن يجعلوها هماً يومياً للناس، يريدون أن يصدروها عناوين الصحافة والإعلام، ولأن هناك من يعطيهم «وجه» هم يستمرون فيما يفعلون.