على مدار الأعوام السابقة أثبتت «جائزة البوكر للرواية العربية» أنها جائزة القضايا العربية. التي تبحث عن جماليات السرد في ظل مضمون أكثر قرباً من المتلقي العربي، وأكثر اتساقاً مع واقع النص وحداثيه شكلاً وموضوعاً. إذ إن الأدب كما وصفه تودوروف في كتابه «الأدب في خطر»: لم يولد من فراغ، ولكن في قلب مجموعة من الخطابات الحية التي يتقاسم معها عدداً من السمات». فما هي الخطابات الحية التي ولدت في قلبها رواية «فرانكشتيان في بغداد»؟ وكيف توازنت السمات الأدبية في النص مع السمات المرجعية في الواقع العراقي؟
وفرانكشتياين أو الذي يسميه الكاتب «الشسمه» معناها بالخليجية الدارجة الذي لا أعرف اسمه أو نسيت اسمه. هو أخطر شخصية في الرواية ولكن يصعب القول إنه الشخصية الرئيسة أو المحورية!. «والشسمه» استلهام لشخصية فرنكشتاين الشهيرة في أفلام الرعب، واستلهام لأسطورة «الهامة» الجاهلية التي تخرج من رأس المقتول غدراً تطلب الثأر لصاحبها حتى يبرد دمه ويرقد ساكناً في قبره. «والشسمه» مخلوق مؤلف من أشلاء الكثيرين من الأبرياء ممن ماتوا غدراً في العراق، وهو يمثل الفسيفساء العراقية، فأشلاء جسده ليس لها هويات محددة، ويسكن هذا الجسد روح أحد الشيعة الذي قتل في تفجير إرهابي، وفي ظروف إنسانية تسردها الرواية أُطلق عليه اسم «دانيال» المسيحي الذي فقد في الحرب العراقية الإيرانية ولم يعثر على جسده.
وبدأ «الشسمه» مشواره بقتل الذين تسببوا في موت الأبرياء الذين يتألف جسده من أشلائهم، ومع الوقت كانت أجزاء جسده تبدأ بالتعفن والتفسخ، فكان مضطراً إلى استبدالها بأشلاء الضحايا الكثر من قتلى الفوضى العراقية الأمر الذي أدى إلى استمرارية عملية الأخذ بالثأر عنده. ثم يحدث تحول خطير في شخصية «الشسمه» بسبب أخطاء في انتقاء «قطع غيار» جسده، حيث تم اختيار أشلاء لبعض المجرمين، فبدأت تنحرف أهداف «الشسمه» إلى القتل من أجل الاستبدال الدائم لأجزاء جسده. وبذلك استمرت عمليات القتل الإجرامي التي ينفذها «الشمسه» كي يبقى هو حياً.
والرواية بنيت على نظام سلس ومعقد في الوقت نفسه، استغل فيها كاتب الرواية «أحمد سعداوي» خبرته في الصحافة وفي إعداد الأفلام الوثائقية كي يقدم للقارئ مشاهد «مصورة» أقرب إلى «الربورتاج» الصحافي الذي يفتح آفاق النص المقروء إلى عوالم الخيال البصري. والخيال يمثل في الرواية عنصر قوة وإبداع يمكن من خلاله المؤلف تحويل الشخصية الخيالية «الشسمة» إلى ثيمة يتآلف معها القارئ ولا يستشعر نبوءها عن السياق شديد الواقعية الذي ترسمه الرواية. ملزمة بذلك الرواية القارئ أن يتفاعل مع مرارة الواقع العراقي واستعصاء تفاصيله عن التفسير أو الحل. فمن يقتل من في العراق؟ ومن المستفيد من وراء هذا الموت الدائم فيه؟ ومن هي الجهات التي تدير عمليات توزيع الموت بعدالة على كافة العراقيين؟
أسئلة لم يصل أحد لحلها إلا من باب التكهنات أومن باب رمي المسؤولية بالجملة على جهة معينة. لذلك جاءت ولادة شخصية «الشسمه» الخيالية منطقية، من الوجهة الفنية، في الرواية، وجاء تطورها وانحدار قيمها متسقاً مع خبرة المتلقي في المسألة العراقية التي سيستحضرها، لا محالة، وهو يتنفس الموت في كل فصول الرواية.
الدراسة الفنية لرواية «فرانكشتاين في بغداد» تحتاج إلى استخدام أدوات منهجية عديدة وخاصة. وتتطلب رسم خرائط عديدة تصف بنية فصولها، وتتقصى تشعباتها الكثيرة وتفاصيلها المتعددة التي تبدو بعضها للوهلة الأولى تسير في خطوط متوازية، ولكن السبر فيها يؤدي إلى تقاطعات لطيفة. تكشف، دون شك، عن نواة النص التي تنطلق منها جمالياته ودلالاته.
«فرانكشتيان في بغداد» رواية الأزمة العراقية التي تذكرنا أن الفن العراقي فن يبوح بمسحة حزن عميق. وأن تألقه وتوهجه يتجلى حين يبلغ الحزن العراقي ذروته.