لو نقرأ في الإرث التاريخي سنجد أن كثيراً من الشخصيات التي سجل اسمها التاريخ كانت في سعي دائم للبحث عن «السعادة»، بعضهم ظنها تتمثل في «الخلود» كما فعــل «جلجامش» الذي زار البحرين «دلمون» باعتبارها أرض الخلود والتي يوجد فيها «إكسيـــر» الخلـــود، والخلــــود لله وحــــده. وبعضهم رأى أن السعادة تكمن في عيش الحياة لحظة بلحظة، أو التمثل بفضائل الأخلاق، أو بالإحسان للآخرين أو بالترفع عن الصغائر ومكاسب الدنيا، وبعضهم بعد بحث مضنٍ رأى في التقرب إلى الله قمة السعادة وأن القناعة هي السر ونقاء السريرة هو مفتاح كل شيء.
اسأل نفسك اليوم، وأنت تعيش وسط دوامة لا تنتهي من الأمور، بعضها مفرح وبعضها يبعث على الهم، اسأل نفسك: هل تريد أن تعيش سعيداً؟! هل تريد قضاء حياتك في هناء؟! وهنا ندخل في معنى هذه المفاهيم، إذ ما هي السعادة وما هو الهناء؟! هل هو المنصب، أم المال، أم التفوق على الآخرين؟! كل منا له أهداف، وهي يفترض أن تجلب له السعادة، لكن هل بالفعل أهدافك هي التي ستقودك للسعادة إن حققتها؟!
قرأت كثيراً في الأدبيات التي تضع للناس خطوطـــاً عريضة في كيفية الحياة بسعــادة وراحة بال، هناك أمور يمكن مناقشتها ويمكن مقارعتها بالحجج، وهناك ما لا يدخل العقل ويندرج في عالم المستحيل، وهناك ما هو واقعي يمكن القيام به بأقل القليل.
يظل السؤال الأهم هو: ماذا تريد من هذه الدنيا؟! ما الذي يستهويك ليخلق لديك الراحة؟!
هناك أشخاص رفضوا مناصب رفيعة ليس لعدم قدرتهم عليها أو لعدم أهليتهم لها، لكن لسبب بسيط جداً، ففي زمننا هذا قد يكون المنصب وبرستيجه ومزاياه العديدة متحققاً لكن على حساب راحة الفرد وحياته الاجتماعية وهدوء النفس والبال. فحدد هل هذا ما تريده؟!
هناك من تبرع بثروته لإسعاد الآخرين، من تخلى عن حياة الدعة ليساعد البسطاء والفقراء، وهناك من سخر أمواله لفعل الخير. فهل هذا ما يجلب لك الراحة والسعادة؟!
كل منا لديه قناعات، لكن النجاعة في أن يكون لهذه القناعات امتداد يقود للرضا عن النفس والسعادة. بالتالي مهم اليوم أن تقيم قناعاتك وما إذا كانت ستحقق لك هذه السعادة أم أنها ستقودك للعكس. لا نعني هنا التنازل عنها، لكن الذكاء بتوجيهها بصورة صحيحة لتحقق لك ما تريد.
من ضمن ما أعجبني من نصائح «بعد تقييمها منطقياً» مجموعة نقاط أراها -من وجهة نظر شخصية- مهمة ويمكنها أن تحدد ملامح السعادة لدى الكثيرين. وتذكروا بأنه يمكنك أن تسكن قصراً لكنك لا تنعم فيه بسعادة حقيقية ينعم بها من يسكن كوخاً متهالكاً أو «عشة» لا تصلح للسكن. يمكنك أن تملك أموال قارون لكن الرضا بعيد عنك، وقد يكون رضا شخص فقير بالكاد يكفيه مدخوله لقوت يومه أكبر وأعظم أثراً إن اقترن بالقناعة وقول «الحمد لله».
في هذه الأدبيات يقال بأن الحياة البسيطة البعيدة عن الإسفاف والإسراف وحب الظهور سبب من أسباب السعادة. كذلك مقارنة حالك بمن هو أقل منك، سواء في الصحة والسكن والمال والوظيفة هي ما تجعل الإنسان يحس بقيمة ما لديه، هو ما يخلق لديه القناعة وحب الحياة وشكر الله على النعم الأساسية المهمة، النظر للأعلى يتعب كثيراً خاصة إن ارتبط بغياب القناعة والإيمان بما كتبه الله. لذلك يقال بأن عليك زيارة المستشفى لتعرف قيمة الصحة، وعليك زيارة السجن لتعرف قيمة الحرية، وزيارة القبور لتعرف قيمة الحياة.
هناك نعم لا نعرف عنها ولا نحس بها إلا حين نفقدها، حينما تحس بالخطر تعرف قيمة الأمان، وحينما تحس بالفوضى وهي تقلق حياتك تعرف قيمة الهدوء، وحينما تتعرض للظلم تعرف قيمة العدالة والإنصاف والمعاملة الحسنة.
ولأن كثيراً من الناس يلهثون لأجل بلوغ مكانة دنيوية أعلى، فهم ينسون بأنك لن تتحصل إلا على ما كتبه الله لك. ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، لن تأخذ إلا نصيبك، ومهما فعلت فإن ما ستحصل عليه هو المكتوب. لا يعني ذلك أن تجلس وتركن، فالمولى يقول اسع يا عبد وسأسعى معك. الحياة متعتها العمل والبناء وزخ العرق، ففي الاجتهاد سعادة، وفي الركون سلبية تزيد أمراض القلوب والأجساد.
كن شاكراً، فالدنيا لا تكمل لأحد، لله حكمة في ما يعطي وفي ما يأخذ، فمن يمتلك البصر قد لا يمتلك السمع، ومن يمتلك المال قد لا يمتلك حب الناس، ومن يمتلك المنصب قد لا يمتلك العائلة السعيدة، والعكس. كلها تدابير، وكلها اختبارات، والذكي من يجعل السعادة هي من تشكل حياته لا من يجعل حياته التي تقرر سعادته من حزنه.
في نظري لتحقيق كل ذلك، وللوصول لهذه القناعة، على الفرد أن يصل للخطوة الأساس في كل شيء، عليه أولاً أن يكون «متصالحاً مع نفسه»، عليه أن يكون واثقاً بأنه هو من يتحكم بمشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، لا أن يكون رهينة للمتغيرات ولا للظروف.
تريد أن تعيش سعيداً؟! أنت وحدك من يقرر ذلك، فكم سعيد يعيش في وسط غابة، وكم كئيب يعيش في قصر على امتداد البصر.
قل الحمد لله على كل حال، وابتسم.