آفة المجتمعات هي «الواسطة» أو فيتامين «و» كما بات يحلو تسميته.
نصفها بـ«الآفة» لأنها بالفعل تنخر في جسد المجتمع، وباتت تضرب مصداقية كل شعار يرفع بشأن تمكين الكفاءات ومحاربة التمييز والمحسوبية وتفضيل فلان على علان.
كنا نعرف منذ الصغر، ولربما قلت الظاهرة لكنها مازالت موجودة، أنك إذا كنت تملك الـ«واو» فإنه من السهل عليك أن تحصل على وظيفة في هذا القطاع أو ذاك. بل كنا نرى البعض من غير المتقدمين دراسياً يتحصلون على مواقع لا بفضل شهاداتهم ودراستهم بل لأن ذويهم يعرفون فلاناً أو علاناً من المسؤولين.
الواسطة موجودة، وهي ما تجعل أناساً يتعبون على أنفسهم وتصرف عليهم عوائلهم على تدريسهم وتأهيلهم وفي النهاية يعانون من أجل الحصول على وظيفة محترمة، تواكب المؤهل الذي يحملونه.
نحتاج اليوم لنعرف عدد البحرينيين الموجودين في الخارج ويعملون هناك بدلاً من عملهم في البحرين.
نحتاج الرقم حتى نعرف حجم الخسارة التي نتكبدها من عدم وجود هذه الكفاءات بالداخل، والأهم بحث الأسباب التي أدت بهم لذلك.
أليس من الأولى أن تستفيد البلد من أبنائها؟! أليس حرياً بنا بالفعل أن نطبق الشعار الجميل الموجود في رؤية البحرين الاقتصادية، وأعني «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»، بدل أن نرى حالات تفرض الاستغراب والتعجب؟!
والله لا أعرف الكثير من أسماء الكفاءات البحرينية في الخارج، لكن لربما بعض الأمثلة تقرع جرس التنبيه، فمثل الدكتور أسامة العلي الذي يعمل في الإمارات خسارة كبيرة للبحرين، رجل ضليع في علم التخطيط والإدارة، باتت تستفيد منه قطاعات عديدة داخل البحرين لأجل رسم استراتيجياتها وإعطاء محاضرات علمية وورش عمل راقية، بحريني حتى النخاع لكنه لا يعمل في البحرين.
رجل مثل يوسف الجودر رئيس عمليات شركة مطارات أبوظبي ومؤخراً ترقى لمنصب أعلى، بحريني حتى النخاع ومازال محتفظاً بجنسيته البحرينية رغم قرابة عقدين من الزمان من العمل في الإمارات. أين هذه الكفاءة عن البحرين؟! أمثلة عديدة أخرى، مثل الأستاذ صلاح اليافعي المدرب الإداري المتميز في أكاديمية «أسباير» في الشقيقة قطر، وكذلك الدكتور بسام قنبر في نفس الأكاديمية، والأخيرة لو بحثنا فيها عن البحرينيين حتى في المجال الرياضي سنجد. فأين البلد عنهم؟!
أسماء عديدة تخوننا الذاكرة عن ذكرهم، وليعذرونا على ذلك. كثير منهم حب البحرين بلده يسري بدمه، لكن فرصته وجدها في الخارج بدل الداخل.
نتحدث عن الكفاءات هنا، فلا يعقل أن نجد خريجين جامعيين وحملة شهادات عليا يعانون بلا وظيفة.
فقط أمس تصلني معلومة عن بحريني حامل للماجستير في البنوك الإسلامية عمل لأربعة أعوام في قطر، واليوم غادر للشقيقة عمان لحصوله على فرصة عمل، بعد أن ظل يبحث عن وظيفة في بلده البحرين فلم ينجح. حامل شهادة ماجستير وصاحب خبرة يعاني هكذا! بالتالي ماذا يفعل غيره.
لا تقولوا لنا إن آفة «الواسطة» قد محيت من مجتمعنا، فالبحرين صغيرة، وكل بالكاد يعرف الآخر، وفي مواقع العمل هناك حالات تؤكد ذلك، لا معيار للكفاءة فيها بل الواسطة هي الطاغية. ولا نريد ذكر أمثلة لأننا ندرك أن هناك من سيزعل في ظل محاولات لنفي وجود هذه الظاهرة.
المجتمع الراقي المتحضر والذي يتطلع للأفضل، هو المجتمع الذكي في الاستفادة من موارده البشرية من خلال استثمار المؤهلين من أبنائه، هو المجتمع الاحترافي في عمله الذي يضع الكفاءة والولاء الوطني أولاً.
تريدون للقطاعات أن تتقدم بالتالي الدولة أن تنهض وتتميز في عملها؟! ألغوا هذا «الفيتامين» الضار، وحرموا على المسؤولين التعامل به. فلا يعقل أن تسود قناعة في المجتمع بأنك إن كنت تملك الـ«واو» ستكون حياتك المهنية بالفعل «وااااو» حتى وإن كنت لا تستحق!