اتصل غاضباً وقال مباشرة: لسنا بحاجة لبرلمان، ولسنا بحاجة لنواب، ولسنا بحاجة لمجلس الشورى، ما نحتاجه اليوم هو حكم الرجل المطلق، نريد حكم الملك وحكم رئيس الوزراء وحكم ولي العهد دون برلمان يستنزف من مواردنا على امتيازات للنواب والشوريين، وفي النهاية لا نشعر كمواطنين أننا نستفيد من هذه المؤسسات.
حاولت تهدئته لنبدأ حواراً جاداً، ولكنه لم يكن مستعداً للحد من نبرته وانفعاله، فسألته: ألم توقع بنعم على ميثاق العمل الوطني؟ فقال: بلى، فقلت: إذاً أنت من وافق على تأسيس الديمقراطية الحالية في البحرين، فرد بانفعال أكبر: لا نريد الميثاق نريد حكم الفرد الواحد.
للأسف لم يستمر الحوار طويلاً لأنه أصر على أفكاره، وأصر على إقفال الهاتف دون استمرار في النقاش. وهو ما دفعني أفكر لدقائق طويلة أن هذا الاتصال مظهر من مظاهر الكفر بالديمقراطية التي توافق عليها شعب البحرين عام 2001. ليست هذه الظاهرة بحرينية فقط، ولكن أعتقد أنها ظاهرة تشهدها معظم الدول العربية، خاصة تلك التي شهدت تحولات بعد الثورات الشعبية التي أطاحت بالنخب الحاكمة فيها.
يحق للأفراد أن يكفروا بالديمقراطية إذا لم يشعروا أنها مفيدة لهم، وأنها لم تغيّر حياتهم، ولم تحسن مستوى معيشتهم، وإذا كانوا أيضاً يعتقدون أن المجتمع لم يستفد منها كذلك. ومثل هذه الأفكار معروفة وموجودة منذ بداية تحولنا الديمقراطي قبل أكثر من عقد، ولكن لم يتم دراستها، وتحليل أسبابها ودوافعها، والأطراف التي تقف وراءها، وتحديد النتائج التي يمكن أن تترتب عليها.
بعد آخر في القضية نفسها، هل مازالت المجتمعات العربية والخليجية تحديداً عصيّة على الديمقراطية التي كان العرب والخليجيون يحلمون بها منذ النصف الأول من القرن العشرين؟
ولنكن أكثر دقة وواقعية، فلنستعرض ثقافة الجداريات، وهي كل ما يكتب ويرسم على الجدران العامة والخاصة في القرى والمدن لأنها تعكس الظروف التي يمر بها المجتمع وتحولاته المستمرة. في الخمسينات والستينات يتذكر أهالي البحرين عبارات كانت تكتب على الجدران (يسقط الاستعمار)، في 1971 نالت البحرين استقلالها، فاختفت عبارات (يسقط الاستعمار) لتظهر في الثمانينات بعد تراجع المد القومي عبارات جديدة وهي (الإسلام هو الحل) وظلت هذه العبارة سائدة مع تصاعد المد الديني في تلك الفترة بسبب الدعم الخليجي للمجاهدين الأفغان والجماعات التي ظهرت هناك، وفي نفس الوقت بسبب ظهور الثورة الخمينية في إيران.
في التسعينات تغيّرت العبارات مجدداً، فصار المكتوب على الجدران هو (البرلمان هو الحل)، وذلك في إشارة هامة إلى المطالب الشعبية والنخبوية التي ظهرت في تلك الفترة، وبعد أن عاد البرلمان إثر التوافقات التاريخية على ميثاق العمل الوطني لم تتوقف ثقافة الجدران، بل ظهرت بدائل أخرى عن الديمقراطية التي كانت الجماهير متعطشة لها في فترات سابقة، فظهرت عبارات تعكس ظهور البدائل في المجتمع البحريني مثل (العلماء خط أحمر) و(معكم معكم يا علماء)، وأخيراً انتهت عبر كتابات جديدة تطالب بـ (إسقاط النظام).
تكشف لنا ثقافة الجداريات طبيعة التحولات التي مرّت على مجتمع البحرين، فمن توظيف هذه الجداريات لمطالب وطنية تدعو لإنهاء الاستعمار، إلى مطالب تعكس الأيديولوجيا المتجذرة في المجتمع كالأيديولوجيا الدينية، وانتهت بالمطالب المتعلقة بالإصلاح السياسي، ولكنها سرعان ما انتهت بعد أن ظهر البديل وهي المؤسسة الدينية، فصار العلماء أهم بكثير من الإصلاح السياسي ومن الديمقراطية لسبب بسيط أن العلماء هم الذين باتوا يشكلون ثقافة الجماهير، حيث بإمكانهم ربط الديمقراطية بالخروج من الدين، واعتبار الديمقراطية من الثوابت الدينية الخالصة. ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك أن المشاركة في الانتخابات البرلمانية كانت ضد الدين في 2002 بالنسبة للوفاق وجماهيرها، ولكنها صارت من الضرورات الدينية وينبغي المشاركة فيها خلال العام 2006 عندما أعلن عن القائمة الإيمانية.
من الواضح أن اتجاهات الجماهير في البحرين تجاه الديمقراطية متذبذبة وغير مستقرة تماماً، ولا أعتقد أنه بالإمكان إبداء وجهة نظر دقيقة بشأنها في ظل غياب الدراسات التي يمكن أن تجيب على مثل هذا التساؤل.
{{ article.visit_count }}
حاولت تهدئته لنبدأ حواراً جاداً، ولكنه لم يكن مستعداً للحد من نبرته وانفعاله، فسألته: ألم توقع بنعم على ميثاق العمل الوطني؟ فقال: بلى، فقلت: إذاً أنت من وافق على تأسيس الديمقراطية الحالية في البحرين، فرد بانفعال أكبر: لا نريد الميثاق نريد حكم الفرد الواحد.
للأسف لم يستمر الحوار طويلاً لأنه أصر على أفكاره، وأصر على إقفال الهاتف دون استمرار في النقاش. وهو ما دفعني أفكر لدقائق طويلة أن هذا الاتصال مظهر من مظاهر الكفر بالديمقراطية التي توافق عليها شعب البحرين عام 2001. ليست هذه الظاهرة بحرينية فقط، ولكن أعتقد أنها ظاهرة تشهدها معظم الدول العربية، خاصة تلك التي شهدت تحولات بعد الثورات الشعبية التي أطاحت بالنخب الحاكمة فيها.
يحق للأفراد أن يكفروا بالديمقراطية إذا لم يشعروا أنها مفيدة لهم، وأنها لم تغيّر حياتهم، ولم تحسن مستوى معيشتهم، وإذا كانوا أيضاً يعتقدون أن المجتمع لم يستفد منها كذلك. ومثل هذه الأفكار معروفة وموجودة منذ بداية تحولنا الديمقراطي قبل أكثر من عقد، ولكن لم يتم دراستها، وتحليل أسبابها ودوافعها، والأطراف التي تقف وراءها، وتحديد النتائج التي يمكن أن تترتب عليها.
بعد آخر في القضية نفسها، هل مازالت المجتمعات العربية والخليجية تحديداً عصيّة على الديمقراطية التي كان العرب والخليجيون يحلمون بها منذ النصف الأول من القرن العشرين؟
ولنكن أكثر دقة وواقعية، فلنستعرض ثقافة الجداريات، وهي كل ما يكتب ويرسم على الجدران العامة والخاصة في القرى والمدن لأنها تعكس الظروف التي يمر بها المجتمع وتحولاته المستمرة. في الخمسينات والستينات يتذكر أهالي البحرين عبارات كانت تكتب على الجدران (يسقط الاستعمار)، في 1971 نالت البحرين استقلالها، فاختفت عبارات (يسقط الاستعمار) لتظهر في الثمانينات بعد تراجع المد القومي عبارات جديدة وهي (الإسلام هو الحل) وظلت هذه العبارة سائدة مع تصاعد المد الديني في تلك الفترة بسبب الدعم الخليجي للمجاهدين الأفغان والجماعات التي ظهرت هناك، وفي نفس الوقت بسبب ظهور الثورة الخمينية في إيران.
في التسعينات تغيّرت العبارات مجدداً، فصار المكتوب على الجدران هو (البرلمان هو الحل)، وذلك في إشارة هامة إلى المطالب الشعبية والنخبوية التي ظهرت في تلك الفترة، وبعد أن عاد البرلمان إثر التوافقات التاريخية على ميثاق العمل الوطني لم تتوقف ثقافة الجدران، بل ظهرت بدائل أخرى عن الديمقراطية التي كانت الجماهير متعطشة لها في فترات سابقة، فظهرت عبارات تعكس ظهور البدائل في المجتمع البحريني مثل (العلماء خط أحمر) و(معكم معكم يا علماء)، وأخيراً انتهت عبر كتابات جديدة تطالب بـ (إسقاط النظام).
تكشف لنا ثقافة الجداريات طبيعة التحولات التي مرّت على مجتمع البحرين، فمن توظيف هذه الجداريات لمطالب وطنية تدعو لإنهاء الاستعمار، إلى مطالب تعكس الأيديولوجيا المتجذرة في المجتمع كالأيديولوجيا الدينية، وانتهت بالمطالب المتعلقة بالإصلاح السياسي، ولكنها سرعان ما انتهت بعد أن ظهر البديل وهي المؤسسة الدينية، فصار العلماء أهم بكثير من الإصلاح السياسي ومن الديمقراطية لسبب بسيط أن العلماء هم الذين باتوا يشكلون ثقافة الجماهير، حيث بإمكانهم ربط الديمقراطية بالخروج من الدين، واعتبار الديمقراطية من الثوابت الدينية الخالصة. ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك أن المشاركة في الانتخابات البرلمانية كانت ضد الدين في 2002 بالنسبة للوفاق وجماهيرها، ولكنها صارت من الضرورات الدينية وينبغي المشاركة فيها خلال العام 2006 عندما أعلن عن القائمة الإيمانية.
من الواضح أن اتجاهات الجماهير في البحرين تجاه الديمقراطية متذبذبة وغير مستقرة تماماً، ولا أعتقد أنه بالإمكان إبداء وجهة نظر دقيقة بشأنها في ظل غياب الدراسات التي يمكن أن تجيب على مثل هذا التساؤل.