للعرب مثالب على الصعيد السياسي لا يمكن لنا حصرها أو عدها، هذه المثالب والأخطاء لا يمكن لنا استذكارها كلها لأنها قديمة جداً قدم الإنسان العربي، ومخزية كذلك، لأنها تؤكد قلة الوعي الذي يتمتع به العرب في أثناء وقبل وبعد كل مشهد سياسي، ولربما كان الربيع العربي فاضحا لثقافتنا السياسية الموروثة.في كل دول العالم -عدا العالم العربي- نجد أن سقوط الأنظمة والحكام يعني انتهاء مرحلة قديمة من الدكتاتورية والبدء في مرحلة جديدة من الديمقراطية والتغيير، أما عند العرب فإن أول ما يمكن أن يقوموا به بعد سقوط النظام هو تفننهم في إسقاط كل متعلقاته، سواء كانت خير أم شر، وهذا ينم عن ضحالة القيم السياسية التي يتمتع بها العرب بعد كل إرهصات وزوبعات وثورات.يؤكد الشاعر العراقي الراحل الكبير محمد الجواهري إن أزمة العرب السياسية تكمن في طبيعة ثقافتهم «التخريبية»، فإنهم إذا أسقطوا حاكماً فإنهم يقتلونه ويخربون كل منجزاته ومتعلقاته، ويؤكد الجواهري أن العرب إذا أسقطوا الحاكم عبر ثورة شعبية فإنهم يهدمون قصوره ويقتلون ويسحلون أجساد عائلته، ولا يكتفون بذلك؛ بل ينكلون ويحرقون أجساد الطباخين الذين كانوا يعملون في قصره، وربما تمتد فوضتهم إلى هدم كل مؤسسات الدولة ومرافقها، ليكتشفوا بعد سقوط النظام أنهم أسقطوا كل منجزاتهم التي بنوها في يوم من الأيام بأيديهم!في الغرب، حين يسقط الطاغية، فإنهم يجعلون قصوره مراكز للآثار والسياحة، فيحافظون عليها؛ بل يجعلونها قبلة للسياح والزوار، بينما نحن العرب فإن أول ما نقوم به هو في هدم القصور، وتخريب المتاحف وسرقة الآثار، وتفجير آبار النفط، وتفخيخ محطات الكهرباء والماء، وتكسير المصابيح في كل الشوارع، وتخريب كل مؤسسة حكومية قائمة، لنجد أنفسنا بعد هذه السلوكيات الصبيانية الانفعالية بأننا حصلنا على الحكم، لكننا لم نحصل على متعلقاته وثرواته، لأننا في الأساس قمنا بتحطيم صورة الدولة وتهشيم أركانها فقط لا غير.الغرب ومعه «العجم» لا يمكن لهم أن يفكروا بهذه الطريقة الغوغائية، فمازالت القصور في أوروبا وقصور شاه إيران محجة للسياح من كل أقطار العالم، ومازالت مصانعهم القديمة تعمل بذات الطريقة، وما زالت متاحفهم يرتادها ملايين الزوار عبر العالم، فهي لم تسرق ولم تكسر لأنها تمثل تاريخهم وحضارتهم، ولأنهم يدركون جيداً أنهم سيستفيدون منها في يوم من الأيام، بل يعلمون أن ليس لهم الحق في خرابها، لأنها ملك للشعب وليست ملك للحاكم. بينما نحن العرب، وبسبب الجرعات الانفعالية الزائدة التي تختزنها جيناتنا بعد كل مشهد سياسي، نستمتع بكل أشكال الفوضى والخراب والدمار، وكأن الذي كان ينقصنا بعد سقوط النظام هو تخريب ممتلكات الوطن.هناك من الدلائل والمشاهد والأحداث الموثقة التي وثقتها الكاميرات والأخبار العالمية، أن في كل الدول العربية التي سقطت أنظمتها في فترة الربيع العربي المصنوع في أمريكا، هنالك خلل ثقافي في وعي هذه الأمة المنكوبة، صنعته أيدي أبنائها وأعانتهم عليه واشنطن وإسرائيل وبعض الدول الغربية، ولهذا وجدنا أن الحكام في دول الربيع سقطوا وسقطت معهم منجزات شعوبهم، لكن في الحقيقة لم يسقط النظام.شعوب الربيع العربي اهتمت أن تخرب المصانع ومحطات النفط وتكسير المتاحف الصنمية الكافرة، هذا كان جل همها، أما أنها تقوم بإكمال مشوار البناء الذي توقف عنده الحاكم السابق، وبسبب ذلك قامت الثورات، فهذا ليس في واردها، وبهذا فإنها خلعت دكتاتوريات لتقيم محلها دكتاتوريات أشد بؤساً وفقراً وتخلفاً، وكأنك «يا بو زيد ما غزيت»، كما إن في هذا الأمر ما هو أكثر خطورة من كل ما قيل، وهو أننا اكتشفنا أن الشعوب العربية بعد الثورات التي قامت بها بكل عفوية وصدق، وقدمت في سبيلها الأضاحي والقرابين وأنهار الدماء لم تك تملك مشروعاً سياسياً نهضوياً يحل محل النظام السابق، بل لم تكن لديها رؤية واضحة لبناء دولة في الأساس، وهذا أخطر ما في هذه المسألة على الإطلاق، فهل سيتخلص العرب من عبء ثقافتهم الفوضوية الموروثة؛ أم أنهم سيكملون مشوار من سبقهم من الآباء الذين فشلوا في رسم معالم الدولة الناجزة؟
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90