في الوقت الذي اجتهدت الكثير من الجهات الإعلامية والسياسية «والدينية» في تكذيب ظاهرة داعش في سوريا والعمل على إثبات أن هؤلاء المقاتلين هم ثوار سوريا، تعمل الكثير من الجهات نفسها على تأكيد أن ما يحدث في العراق هو تفشي داعش واحتلالها للمدن وامتداد خطرها الذي لا تحمد عقباه. وتتجاور المضحكات في تفسير الظاهرة الداعشية بأنها صنيعة النظام السوري مرة، أو صناعة نوري المالكي؛ ولكن المتفق عليه عند أولئك المحللين أن داعش صناعة إيرانية أمريكية وهي مؤامرة ضد أهل السنة أينما حلت!!
ليست داعش هي الخطر الوحيد الداهم على الأمة باسم «الإسلام»، ثمة أخواتها من جبهة النصرة وجيوش الصحابة المختلفة، وثمة بنات عمها من الحوثييين وجيش المهدي وعصائب الحق وفيلق القدس وإلى حد ما حزب الله. هؤلاء جميعاً لم تصنعهم أية مخابرات عالمية، وإن كانت قد استغلتهم واستفادة منهم أيما استفادة، ولكنهم نتاج الاستغلال الديني ونشر التخلف والانحطاط الفكري باسم العودة إلى الحق والحفاظ على الدين من البدع والفسوق، ومحاربة التفكير الإصلاحي الناقد والمطالبات بتجديد الفتاوى وإصلاح التعليم الديني، وتحييد المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية، التي يحاربها البعض بدعاوى فصل الدين عن السياسة.
حين احتلت روسيا أفغانستان في نهايات سبعينات القرن الماضي خرجت دعوات من المساجد وفي الجامعات العربية تحت سمع وبصر الأنظمة وبفتاوى «رسمية» لجهاد الروس الملحدين والشيوعيين وإخراجهم من أفغانستان الإسلامية، وساندت أمريكا، التي تدعم احتلال الإسرائيليين لبيت المقدس، المجاهدين في حربهم ضد الكفار الملحدين بالسلاح والتدريب. وحين احتلت أمريكا العراق خرجت فتاوى «رسمية» بتحريم الجهاد في العراق وقتال الأمريكان الصليبيين المحتلين. تلك التناقضات لم تستطع فتاوى المشايخ ضبطها، فضبطها تنظيم القاعدة الذي وجد في تلك المناطق بؤرة استيطانية مريحة ليخرج بفتاواه بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وقتال الحكام المواليين للمشركين. فكانت المواجهات التكفيرية والتفجيرات داخل الدول العربية ومنها السعودية.
وحين اندلعت الثورة السورية واكبها دعوات «لجهاد» الحكم النصيري لأهل السنة، ودعوات «لتحرير» سوريا من آل الأسد، وجرت «فبركة» أفلام للجيش السوري يجبر بعض السوريين على نطق الشهادة للأسد أو السجود لصوره. وجرى قصف الجامع الأموي وهدم ضريح خالد بن الوليد ونسبة العملية للنظام السوري الذي كان طوال السنوات الماضية ينفق على خدمتها وترميمها من ميزانية الدولة وهو الذي عكف على إصلاحها بعد عمليات القصف.
كل تلك المزاعم لا تتناسب مع جوهر الثورة السورية التي تطالب بتداول السلطة وصياغة دستور وطني وعودة الحياة الحزبية وتأسيس نظام ديمقراطي في سوريا، كما إن الفبركة الإعلامية «لكفر» نظام الأسد لا تتناسب مع ما نعرفه ويخبرنا به السوريون بأن الطائفة العلوية لا تعبد الحاكم وأن التعليم الرسمي والتشريع الفقهي الرسمي في سوريا يعتمد المذهب السني. إلى أن خرجت جبهة النصرة وداعش وأعلنتا عن تأسيس الدولة الإسلامية في سوريا وتقاتلتا ثم كفرت بعضها بعضاً وجاهرت بأفلامها التي تقطع الرؤوس وتعدم الرجال وتقيم الحدود. ولا ننسى أن الثورة السورية كان يتزعمها مشايخ دين في الأساس وتنبري جمعيات دينية لجمع التبرعات للجهاد في سوريا و»تجهيز غازي» وحشد غزاه مجاهدين من كافة أقطاب الأرض.
وفي المقابل فإن المآتم والحسينيات الشيعية مازالت تنادي يا لثارات الحسين، ومازالت تقسم الأمة إلى معسكر يزيد ومعسكر الحسين. ومازالت تكفر النواصب وتلعنهم، في استحضار أسطوري للتاريخ لا يمكن قراءته إلا أنه شحن عاطفي وتجهيز للمعركة المقدسة الكبرى في تاريخ المسلمين التي سيتم الانتقام فيها للحسين. ولكن ممن ستؤخذ ثارات الحسين؟ ومن هم نواصب هذا العصر؟ وكيف نقبل استعادة مشاهد كربلاء والطف بعد أكثر من ألف ومائتي عام؟! إلى أن جاءت الإجابة من العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وتولي الشيعة المتطرفين إدارة العملية السياسية، حيث وقعت عمليات إبادة وتعذيب لسنة العراق وتم تطهير العديد من المناطق من السنة والتمييز بين المعسكرين الحسيني واليزيدي برفع الرايات السوداء على المنازل.
الدراسات الاستشراقية التاريخية والمعاصرة والتقارير الاستخباراتية العالمية أدركت أن الجمود الثقافي والتحجر الديني الذي دخلت فيه الأمة الإسلامية بعد إغلاق باب الاجتهاد كفيل بأن يقتل المسلمون بعضهم بعضاً بأيديهم وأموالهم وفتاواهم. فعرفت تلك الجهات كيف تدير مصالحها في أراضينا وكيف تحقق أهدافها مجاناً من دمائنا وأموالنا ومن فوق منابرنا. وتمكنت عن طريقنا من بعث المغول الجدد والتتار المعاصرين بسيوفهم ولحاهم الكثة وبالروح الوحشية الموغلة في القتل تحت رايات «الله أكبر»، ولينشروا الديمقراطية الغربية والحرية الأمريكية بيننا!!