لم تكن دول الإقليم العربي، وتحديداً دول الخليج، بعيدة عن صراع المصالح في ليبيا ما بعد القذافي، فكان التدخل المباشر في المشاركة مع دول العالم في تسريع عملية إسقاط النظام، فشاركت الإمارات وقطر والأردن في المجهود الحربي الهادف إلى تقصير أمد الصراع بين الثوار والنظام، لاسيما وأن كل المؤشرات كانت تدل على أنه وبدون التدخل الخارجي سيمتد هذا الصراع طويلاً.هذه المصالح انعكست على الأرض بعد نجاح الثورة، فكانت الدول الخليجية من أوائل المهتمين بعودة الاستقرار إلى ليبيا ودوران عجلة التنمية عبر مشاريع عملاقة، حيث كان هناك ما يشبه الإجماع على عناوين رئيسة تشمل الاستقرار الأمني والسياسي والتنمية، حتى بدأت قطر بالتغريد خارج السرب الخليجي وتدخلت باكراً لجني الثمار.فتحت الانتخابات المصرية الأولى 2012 والتي فاز بها حليفها المصري محمد مرسي وجماعته والأمور في تونس التي كادت تستتب لحليفها التونسي الغنوشي وجماعته شهية الدوحة، ولم يبقَ إلا ليبيا ليكتمل عقدُ منظومة الإخوان المسلمين الذي يشمل مصر والسودان وتونس مع تقدم للإسلاميين في المغرب، مضافاً إليه مبشرات بتقدم حزب الإصلاح الإخواني في اليمن، إضافة إلى البعد السياسي للتحرك القطري كان هناك بعداً اقتصادياً لا يقل في أهميته، كون قطر تحظى بمرتبة متقدمة في تصدير الغاز بأنواعه ووجود منافس لها أقرب للأسواق الكبرى في أوروبا التي لايفصلها عن غاز ليبيا ونفطها إلا البحر المتوسط، كان سيشكل فارقاً يستحق بلاشك خوض غمار المعركة.لكنه الشعب الليبي الذي لا تعرفه قطر، كحال معظم العرب والخليجيين، فقد فهمت الدوحة ومن خلفها راسمو سياسة الشرق الأوسط الجديد التدين الليبي الفطري وتوق هذا المجتمع للحرية الدينية التي كانت مهددة في بعض مراحل حكم القذافي، على أنه شيك على بياض للتنظيم الديني المتصادم مع الخلفية الاجتماعية القبلية للمجتمع، إضافة إلى الممارسات العنيفة للكتائب الدينية المسلحة ومحاولتها أسلمة المجتمع على طريقتها، خصوصاً أن بعض رموز هذه الكتائب كانوا من المعتقلين الإسلاميين في سجن بوسليم سيء السمعة لسنوات، وربما عقود، وخرجوا وهم يرون أنهم دفعوا ثمن الحرية والانعتاق من ربقة الحكم الشمولي، يضاف لذلك معاناتهم المريرة ذات الانعكاسات السيكولوجية والاجتماعية التي جعلتهم والغين في العنف مفعمين بالانتقام .لكن المجتمع المثقل بدوره بتجربة تنظيم الدولة الصارم عبر اللجان الثورية لم يكن ليسمح بالدخول في تجارب التنظيمات الدينية التي تحصن ضدها وفهم مراميها، فانبرى منذ تجاربه الأولى لإسقاط التنظيم الدولي المرة تلو الأخرى، مسبباً صدمة قاسية لقطر وتركيا عرابي التنظيم الدولي، ولذا فقد كان العنف وفرض أمرٍ واقع سياسة لابد منها مهما كلف الأمر.ولعل الخريطة الديموغرافية الليبية التي يشكل التنوع والترابط أهم محاورها، إضافة إلى وفرة السلاح وانتعاش الإتجار به وتهريبه، حيث تجاوز مرحلة الإتجار الداخلي إلى تهريبه جنوباً من تشاد إلى النيجر ثم مالي وغرباً، فاستخدمته الجماعات المسلحة هناك، وانتهى الآخر بيد الطوارق وغيرهم من المجاميع الصحراوية، بل وعُثر على قدر معتبر منه عند جماعة بوكو حرام النيجيرية، ووجد طريقه نحو تونس وشرقاً ومصر غرباً، فشوهدت وضبطت بحوزة جماعات مسلحة أسلحة تتجاوز البنادق الآلية والقنابل الخفيفة لتصل إلى مضادات الطائرات المحمولة على الكتف ومضادات الدروع وغيرها، والتي استخدمت ضد قوات الأمن والجيش المصري، وتم تهريب جزء منها إلى غزة، وعبر جزء آخر باتجاه السودان عبر المناطق الحدودية المشتركة. بذلك أصبحت ليبيا بيئة خصبة لمعسكرات التدريب للمجاميع المسلحة في المناطق الجنوبية من الكُفرة وحتى حدود تشاد الذين يرتبط سكانها من قبائل التبو وغيرها بعلاقات نسب وقرابة مع التبو الليبية التي ذات الأصول الأفريقية، والتي دخلت مع أحلافها في ليبيا وتشاد في صراع دموي مع قبائل الزوية وأحلافها غير الكثر في خارطة التحركات المنظمة في المنطقة.الجدير بالذكر أن التبو تقتسم السيطرة على مناطق معتبرة من إقليم فزان الحدودي مع الجزائر مع قبائل الطوارق، وزعيمهم الشهير موسى الكوني، إضافة لقبائل الزنتان، وينطبق الأمر وكذلك الأمر للبراعصة الرشايدة أكبر قبائل الشرق المرتبطين بأبناء عمومتهم في مناطق مصر الحدودية.وإذا كان التقسيم القبلي والعرقي هو آفة الدولة الوطنية؛ ففي ليبيا ماهو أعظم فهذه العلاقات الاجتماعية والإنسانية المتشابكة التي مزقتها سايكس-بيكو بمسطرة حدودية جائرة، مزقت النسيج القبلي والعائلي وخلقت صراع ولاءات حائرة بين الدولة والقبيلة العابرة للحدود، فأصبح الكراغلة الليبيون ذوي الأصول التركية والشركسية متهمين من أبناء وطنهم بالعمالة للاستخبارات التركية، لأنها لم تنس أنهم أتراك نسيهم الأسلاف الذين ركبوا البحر وتذكرتهم مصالح الغاز والنفط والتنظيم، كما تذكرت إسرائيل أن ثمة يهوداً ليبيين سيكون تذكرهم مجداً لتثبيت مزاعم بلعبة الحقوق التاريخية التي تتقنها وتبقيها مع خيوط أخرى نسجت أيام العقيد حاضرة في الملعب الليبي.هكذا أصبحت ليبيا الأعراق والقبائل حاضرة، تستحضر كل قبيلة الأفكار والقيم لتكتمل منظومة التآمر على دولة الفوضى والصراعات، ولتردي رصاصات كتائب القبائل ومجالس التنظيمات والمناطق والجهويات الأمل في الدولة الوطنية، حيث أصبحت تنظيمات كأنصار الشريعة المنتمية فكرياً للقاعدة وتشعبت وارتبط اسمها بعمليات منها تفجير السفارة الأمريكية في طرابلس وعمليات دموية استهدفت الجيش التونسي، في جبل الشعانبي، والجماعة الليبية المقاتلة المنتمية لمدرسة التكفير والهجرة و300 مليشيا أخرى؛ إما مصنفة دينياً كسرايا راف الله الساحاتي أو مناطقياً ككتائب مصراته أو قبلياً كثوار الزنتان أو تشكل خليطاً متنوعاً كدرع ليبيا والصواعق و17 فبراير.لذا ففي ظل عسكرة الثورة والفوضى كان المؤمنون بحق الاختلاف الفكري والسياسي وقود للمحرقة التي تأكل ليبيا اليوم، حيث أصبح حمل السلاح أقل خطورة من معارضة فكر التنظيمات الدينية التي مدت يدها لتقطف زهرة أبناء ليبيا العُزل؛ كالناشط عبدالسلام المسماري و800 آخرين من الأطباء والمهندسين والضباط والمحامين والصحافيين، والذين قضوا تفجيراً أو قنصاً في شوارع بنغازي طوال عامين من الصبر المر، وأصبح مصيرهم ودمائهم محركاً لقطاع من الليبيين للاصطفاف خلف ما سمي بـ «عملية الكرامة» علهم يتمكنون من القيام بأمر أكثر من انتظار الساعة التي سيختارها أحدهم ليضغط على الزناد، وحتى لو كانت «الكرامة» ستأتي على يدي ضابط يحمل بعضاً من رائحة العقيد الذي حاربوه بالأمس.. إنها ليبيا الجديدة، ولا شيء فيها مستحيل. .. وللحديث بقية
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90