في الستينات من القرن العشرين التقت قمتان من قمم الفن المصري هما أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب بعد طول غياب . واعتبر هذا اللقاء هو لقاء السحاب مجازاً. ومع التقدير لصاحبي ذلك اللقاء فإن لقاء خادم الحرمين الشريفين والرئيس المصري في مطار القاهرة الدولي وفي حضن الطائرة الملكية السعوية يعد لقاء سحاب حقيقياً وليس مجازياً، فهو ضم قائدي أهم دولتين عربيتين في هذه المرحلة بعد أن تراجعت أدوار دول أخرى نتيجة الارتماء في أحضان قوى دولية وإقليمية، ونتيجة التآكل في العمل الوطني الداخلي والقومي.
وقد تم تبادل الآراء بين الزعيمين حول القضايا الإقليمية والدولية والعلاقات الثنائية بين الدولتين، وهذا ما يمكن أن نتصوره من مثل هذا اللقاء المهم لوضع استراتيجية مشتركة لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية التي تتعرض لها المنطقة، ونواة هذه الاستراتيجية الفكرين السعودي والمصري في تفاعله مع فكر الإمارات والكويت والبحرين وباقي الدول العربية. وإذا شئنا استخدام المصطلح التقليدي في العمل الدولي نقول إنها استراتيجية تبنى على تفاهم المتقاربين والراغبين في العمل المشترك، ومن يجد في نفسه القدرة أو الرغبة فأهلاً به، ومن يعزف لدواعٍ خاصة به فلا تثريب عليه.
على الجميع أن يدركوا أن التحديات جسيمة والأخطار المحدقة عظيمة، يكفي الإشارة إلى أربعة أنواع من التحديات التي تتعرض لها المنطقة في اللحظة الراهنة.. التحدي الأول هو تحدي مشروع سايكس بيكو الجديد المسمي الشرق الأوسط الجديد بمنهج واستراتيجية نظرية الفوضي الخلاقة، وقد ظهر هذا المنطق الاستراتيجي بصور وشخصيات متعددة منذ الحرب العراقية الإيرانية وغزو العراق للكويت وتحرير الكويت، التحدي الثاني يرتبط بالقضية الفلسطينية، وهو وثيق الصلة بالأول، بل يمكن اعتبار نواته الأولى مشروع ايجال الون في الستينات ثم شيمون بيريز بعد ذلك أوائل التسعينات، وأخيراً التنفيذ الفعلي لهذه المشروع ضد الشعب الفلسطيني نتيجة جهود بنيامين نتنياهو والانقسام الفلسطيني.
التحدي الثالث هو المشروع الفارسي الصفوي الشيفوني الذي يعيش أحلام الماضي، ويرفض التعامل مع العرب كدول مستقلة، ويجعل العرب ودولهم وشعوبهم خط الدفاع الأمامي عن النظام الفارسي في مواجهة خصومه، بل يستخدمهم أوراق ضغط في لعبته من أجل القوة والسيطرة الإقليمية، وتجلي ذلك في السياسة الأمنية والدفاعية والثقافية والطائفية سعياً للسيطرة الفعلية على سوريا والعراق وإلى حد ما لبنان، والبقية تأتي بالتدريج إذا استمر العرب على تشتتهم وافتراقهم ومن ثم ضعفهم.
التحدي الرابع هو المشروع العثماني لإحياء الوهم المسمى بالخلافة العثمانية، وهو وهم يسعى لاستعادة السيطرة والاحتلال العثماني على العالم العربي الذي امتد لعدة قرون باسم الإسلام، وهو استعمار استنزف الثروات العربية عبر سياسة الملتزم وجباية الضرائب ونقل الصناع والحرفيين من البلاد العربية وأقام حائطاً من التغييب القومي باسم الدين، ولعل أكثر ما يظهر حقيقة هذا التحدي التمثيليات التركية حول حريم السلطان ونظريات الخلافة العثمانية التي روج ويروج لها سياسيون ورجال دين باسم الحرية والديموقراطية والشرعية، وهم الذين قمعوا المتظاهرين السلميين في ميدان جيزي وغيره، وأهانوا السلطة العسكرية وقدموا قادتها للمحاكمات الوهمية، كما أضعفوا وتدخلوا في السلطة القضائية عندما أخذت موقفاً مستقلاً في بعض الحالات، وكذلك الشرطة التي كشفت فساد النخبة الحاكمة وأبنائها وأجهزة الإعلام التي نشرت بعض الحقائق فضلاً عن الانقلاب ضد أقرب الحلفاء أمثال رجل الدين الداعية جولن، الحليف السابق لهم.
لمواجهة هذه التحديات فإن السعودية ومصر، رغم الصعوبات التي تواجهها كل دولة بخاصة مصر في هذه المرحلة، فإن لديهما أربعة عوامل من القوة الحقيقية؛ الأول القوة البشرية المتعلمة والخبيرة في علوم العصر وفي مقدمتها العلوم والتكنولوجيا، إذا أحسن الاستفادة منها فهي أداة بالغة الأهمية وركيزة التقدم الحقيقي. الثاني القوة العسكرية البشرية والتكنولوجية رغم حاجتها إلى صناعة عسكرية عربية مشتركة وحديثة، والثالث القوة الاقتصادية المتمثلة في ثروات النفظ والغاز وثروات قناة السويس والقاعدة الصناعية في مصر والسعودية والإمارات، فهم أكبر سوق وأكبر قاعدة اقتصادية، فالسعودية إحدى الدول العشرين في الاقتصاد العالمي، والإمارات القوة الاقتصادية الثانية في العالم العربي من حيث الناتج المحلي الإجمالي ومصر هي القوة الثالثة في الناتج المحلي الإجمالي، الثانية من حيث القوة الاقتصادية الشاملة رغم مشاكلها الكبيرة. والعامل الرابع هو قوة الإردة لدى القيادتين المصرية والسعودية وأيضاً لدى الدول الخليجية الأخري، وخاصة الإمارات والكويت والبحرين، وأعتقد أنها أيضاً متوافرة لدى دول عربية أخرى مهمة وفي سبيلها للقيام بخطوات جادة للعمل العربي المشترك في الوقت المناسب.
نقول إن لقاء السعودية ومصر يمكن أن يكون هو القاطرة للعمل العربي المشترك دون إقصاء أحد أو استبعاد أحد، وهو أمر موضع تقدير وتفهم من الآخرين طالما لا تتورط أية دولة عربية في عمل ضد المصالح العربية المشتركة.
وكباحث في الدراسات الاستراتيجية الدولية ومتابع بحكم الانتماء لقضايا مصر والقضايا العربية منذ أكثر من أربعين عاماً، أجد أن هذا اللقاء المصري السعودي يمثل ركيزة للانطلاق نحو حضارة عربية جديدة تسعى لاستعادة ما ضاع من زمن ومن قوة عربية في مراحل سابقة، وللحيلولة دون مزيد من التهميش للعرب، رغم ما لديهم من مصادر القوة، وربما يتساءل البعض أن ما يمزق العرب ويفرق صفوفهم هو المصالح الشخصية والمطامع الفئوية والمحلية والخلافات الدينية والمذهبية، ورغم إدراكنا أن مثل هذا القول له بعض الصحة فإن يقظة وتحرك أكبر دولتين عربيتين كفيل بالمساعدة في التغلب على مثل هذه التحديات، خاصة إذا لجأت هاتان الدولتان للفكر الاستراتيجي المعاصر بعدم التفكير في مفاهيم التحالف أو قيام دولة واحدة أو نحو ذلك من المفاهيم التي تجاوزها العصر. فالقوة في التنسيق وتوحيد الخطط الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية وليس في الوحدات السياسية الشكلية التي تتجاوز الخصائص المحلية.
وقد حققت مثل هذا المفهوم العصري بصورة رائعة كل من الهند والصين، فما بين أقاليمها أو ولاياتها من خلافات مذهبية ودينية وعرقية وتفاوت اقتصادي واجتماعي وثقافي أكبر مما بين الدول العربية، كما أن أوروبا المعاصرة ممثلة في الاتحاد الأوربي تجاوزت مفاهيم الأنانية المحلية والحروب القديمة بين دولها وطوائفها باسم الدين والمذهب، وها هي ألمانيا تتحمل مئات المليارات من الدولارات لتجتذب وترفع مستوى ألمانيا الشرقية وتستعيد وحدتها، وها هو الاتحاد الأوربي يبادر لمساعدة اليونان وإسبانيا والبرتغال للخروج من أزماتها الاقتصادية.
إننا نقول إنه لو تجاوزت الدول العربية التفكير الضيق الأناني الذي تغذيه قوى إقليمية ودولية طامعة في العرب وحريصة على العمل ضد مصالحهم بعيدة المدى. ولو أدركت القيادات العربية المختلفة أن للدول أقدارها مع الاحترام لمبدأ السيادة الوطنية؛ فإن العرب ستعود لهم قوتهم ويستطيعون بناء حضارة عربية جديدة تساهم إيجابياً في حضارة القرن الحادي والعشرين، ليس عبر الفكر الماضوي الذي تجاوزه الزمن ولا عبر الإرهاب سيء السمعة لأصحابه ولا عبر النزاعات والصراعات المحلية الضيقة التي تمثل مغامرات دونكشوتية لا تسمن ولا تغني من جوع، ولن تضيف قوة حقيقية لأية دولة على عناصر قوتها الحقيقية.
نقول إن تجنب السياسات والأفكار البائدة والبالية، بل والفاسدة، ينبغي أن يكون طريقنا للمستقبل وأساس بناء حضارتنا المشتركة دون إقصاء أو إبعاد لأية دولة، بل مع الاحترام للأهداف الحقيقية لسياستها ومصالحها الوطنية ومواردها. إن العمل التضامني هو الأساس الحقيقي الذي عبر عنه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بقوله مثل «المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمي».
هذه هي الرؤية العربية والإسلامية الصحيحة التي قام عليها التقارب والتلاقي المصري السعودي بفضل مبادرات خادم الحرمين الشريفين، والتي نرى أنه قام عليها لقاء السحاب بين الزعيمين المصري والسعودي، ونتمني أن تقوم عليها أية لقاءات مع سائر الأقطار العربية أو مع من يرغب منها.