هو ثابت معروف، لكن هناك من يكابر بشأنه، يتمثل بأن المجتمع المنشغل بالسياسة والذي يبني حراكه عليها لا يتقدم أبداً، فهو دائماً ما يكون وسط صراعات وتجاذبات بين أطراف القوى المختلفة، وهذا يأتي على حساب أمور أخرى أهم.
هذه الصراعات والتجاذبات لها ضريبة، وتتمثل بأن تتعطل كل آليات الحراك في هذه الأوطان، وبدلاً من أن تتمحور العمليات حول البناء والتنمية تنحرف لتتمحور حول أمور السياسة والصراعات.
المجتمع المنشغل بالسياسة يقود أطرافاً أخرى لدفع ضريبة باهظة، وهنا نعني بفئات المجتمع ورجل الشارع البسيط والذين يمتلكون -كحق من حقوقهم- تطلعات أخرى تختلف عن تطلعات السياسيين، ودفعهم للضريبة هنا يكون بتعطل حياتهم وعرقلة أي عمليات بناء تستهدف تطوير المجتمع وخدمة أناسه.
مخطئ من يظن بأن السياسة هي التي تصنع الأوطان وتبني المجتمعات، ونعم، هناك من سيختلف مع هذا الطرح بالأخص السياسيين، وهذا يدفعنا للتوضيح بأن هناك فرقاً كبيراً بين السياسة وبين وضع الخطط الاستراتيجية التي تبنى عليها السياسة، باعتبار أننا مجتمعات دائماً تعمل بهرم مقلوب، وبتعبير أبسط هناك فرق بين السياسة وبين الإدارة.
التعامل سياسياً مع شؤون بلد يختلف تماماً عن التعامل إدارياً مع شؤونه، في الحالة الأولى تكون الإدارة رهينة في سجن السياسة، تتشكل حسبما يتجه المسار السياسي، ولربما تتجمد في مجتمعات ووقتها يستنزف كل شيء بالضرورة بسبب الانغماس في السياسة وتشعباتها.
هنا تكمن المشكلة، ولسنا نعني مشكلة تحريك الأمور المعنية ببناء المجتمعات، بقدر ما نعني إهمال الجانب الإداري باختلاف مضامينه على حساب الغرق في السياسة.
السياسة لا يمكن أن تطور أي بلد، الإدارة الصحيحة هي من تفعل ذلك، بل السياسة يمكن لها -وبكل سهولة- أن تدمر بلداً، يمكن أن تشرخه، يمكن أن تجمده ويمكن أن تحطم آمال وطموحات ومعنويات شعوب، لكن من ناحية إيجابية «تطويع» السياسة لتكون أداة تخدم الإدارة بشكل مثالي وصحيح هو بمثابة العثور على «المصباح» السحري.
الإدارة الصحيحة هي التي تقدم سياسة صحيحة، هي التي تعني بالجوانب الأهم المتعلقة ببناء المجتمع وتطويره والنهوض بحراكه ودفع قطاعاته للأمام حتى تزدهر وتنمو، وحينما يحصل ذلك فإن بقاء المساجلات السياسية والصراعات على مراكز القوى لن يكون إلا «عبثاً» لا يقبل به الناس ولا تستسيغه مكونات المجتمع، لكن يكون بمثابة العصا التي توضع وسط العجلة، وواضعو هذه العصا لن ينظر إليهم إلا كأناس يعشقون الفوضى والعيش فيها، لن يصنفوا إلا على أنهم أشخاص لا يهمهم تقدم المجتمع ومصلحة فئاته بقدر ما تهمهم مكاسبهم السياسية.
كم دولة في العالم انغمست انغماساً شديداً في السياسة انعكس ذلك إيجاباً على مواطنيها واقتصادها وعلى حراكها التنموي؟!
قد تكون هناك أمثلة، لكنها كمقارنة رقمية بمجموع الحالات لن تكون سوى قطرة في محيط، فالسياسة لم توضع فقط لإدارة المجتمعات، كأساس أعني، وارجعوا للتاريخ، بقدر ما وضعت لتكون أداة قوة وأداة سيطرة وتحكم، وهذه مشكلة السياسة المتأصلة مهما كانت هناك محاولات للتجميل.
لن نزيد في السرد هنا حتى لا يتحسس البعض كالعادة، لكننا نقول: انظروا حولكم، هناك أمثلة ناجحة لدول وضعت انشغالها بالسياسة وسجالاتها جانباً، وحيدت من يريد «حشر» الناس فيها، وركزت على التطوير الإداري فيها والخدمة المجتمعية وبناء الاقتصاد والاستثمار في الطاقات البشرية والعناية بمتطلباتها.
تمعنوا فيها لتدركوا وبكل بساطة كيف أن بناء الأوطان لا علاقة له بالسياسة التي نعنيها هنا، أي الانشغال بالفوضى وتجميد حراك البلد في أغلب جوانبه ووضع الناس وحياتهم بالتالي في «الثلاجة!».