من المشكلات الثقافية التي يعاني منها الوطن العربي تفشي الفكر الإقصائي وانفصام عرى الحوار وقبول الآخر والآراء المختلفة.
وعلى الرغم من كثرة منتديات حوار الأديان والتقريب بين المذاهب والفعاليات الإعلامية الداعية لقبول التعددية، وكثير منها يقوم بدعم حكومي إلا أن عدم تحول مخرجات الفعاليات السابقة إلى برنامج عمل وطني وقومي يتم تدريس مبادئه في المناهج التعليمية وبث تفاصيله في وسائل الإعلام وسن قوانين لفرض ثوابته؛ سيبقى كل ما سبق مهرجانات شكلية تنتهي بتوقيع الحاضرين عليها وعلى بياناتها الختامية. أما الواقع فهو شيء آخر منفصل.
ومفهوم الحضارة يقوم على أساس مشاركة كافة مكونات (الأمة)، المتعددة في جذورها وانتماءاتها المتحدة في هويتها وولائها، في بناء المنجزات الثقافية والعملية لتلك الحضارة. وهذا ما تحقق في الدول الإسلامية في عهودها الذهبية حين ترجمت كل الثقافات واشتركت كل مكونات الدولة في البحث والتأليف والتجريب والحركة العلمية.
ولم تسقط تلك الممالك الإسلامية إلا بعد أن شاعت الأفكار العنصرية فيها؛ مثل التعصب للعرق العربي الذي فتك بالدولة الأموية واختراق الأتراك والفرس للنسب العربي الذي فتت الدولة العباسية.
وما يحدث اليوم من تصفية ممنهجة للأقليات في الدول العربية لا يخرج عن مشروع المؤامرة الهادف إلى تفتيت الدول العربية عبر تفجير المكونات الثقافية المتناقضة.
وقد بدأت الحملة المنظمة ضد الأقليات بالحرب الكبرى بين (السنة والشيعة) الذين كفر بعضهم بعضاً عبر القنوات الطائفية المتعددة والكتيبات المختزلة المبثوثة في كل مكان والتي أخرجت أسوأ ما في بطون كتب التراث من القذف والتكفير والتفسيق والتبديع.
وتزامن مع حرب السنة والشيعة تحريض جائر ضد أقباط مصر منذ بداية الثمانيات من القرن المنصرم حيث اتهموا بالعمالة للأمريكان وتنفيذ مشاريع تغريبية واستعمارية وتم استهداف حياتهم والتشهير بهم إلى أن اضطرت عائلات عديدة منهم إلى الهجرة من مصر.
ومع موجة (كامب ديفيد 2) المسماة زوراً وبهتاناً بالربيع العربي زاد استهداف المسيحيين حين استهدف التنظيم الإخواني كنائس أقباط مصر بعد فض اعتصام رابعة. وفي سوريا حين تم قتل مجموعة من الرهبان وأخذ مجموعة من الراهبات أسرى ورهينات تم إطلاق سراحهن بـ(فدية).
وكانت فاجعة كبرى حين تم تخيير مسيحيي الموصل بين القتل أو اعتناق الإسلام أو دفع الجزية. مما دفعهم إلى الهجرة عن بيوتهم وأموالهم بعد حرق كنائسهم التي يرجع تاريخ بعضها إلى ما قبل الإسلام والتي يعبر بقاؤها وتأمين المسيحيين فيها عن تسامح الإسلام. وازدادت شناعة الحرب ضد الأقليات بقتل الإيزيديين في العراق وبيع نسائهم جوار في سوق النخاسة. إنها الجاهلية الأولى تعود بأبشع مما كانت عليه وبترويج كاذب وباطل لدولة إسلامية تعيد مجد المسلمين.
هذا السلوك المنحرف، الذي يتخلله تقاعس ثقافي عن نشر مفاهيم التسامح والتعايش وقبول الآخر، سيؤدي إلى تصفية المنطقة العربية من التعدد العرقي والثقافي، وإلى أن تحولها إلى مرتع للوحوش البشرية وساحة كبيرة ومفتوحة للقتل تحت رايات (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهتافات (الله أكبر) مما يسم الدين الإسلامي بأنه دين الدم والذبح وسوق الجواري. وبذلك سيكون حرياً بالعالم المتحضر أن يهجم بطائراته وبارجاته على هذه المنطقة المتخلفة وتحريرها من هذا الدين وهذه الثقافة وتسكين شعوب متحضرة فيها ونشر أديان إنسانية ومتسامحة. وكما كان احتلال أمريكا للعراق عام 2003م، وقصف النيتو لليبيا عام 2011م، تحت ذريعة نشر الديمقراطية والحرية.
فربما يكون الاحتلال الجديد للعالم العربي تحت ذريعة نشر القيم الإنسانية وحماية الأقليات والمرأة من المتطرفين، وحماية البشرية من التتار الجدد.
لقد نجحت فرق (الدواعش) المتعددة من بث صورة مخيفة عن ديننا الإسلامي، وتمكنت من تنفير الناس من الإسلام والإقبال عليه، وزرعت صورة مشوهة لكل ملتح ومتحجبة. والجهاد الناجع لـ(عشاق الجهاد) أن توضع خطة إسلامية صحيحة لبتر جذور التطرف والإقصاء من الثقافة الإسلامية المعاصرة، ومحاربة كل عمليات تنميط الدين الإسلامي في قالب واحد. وكتم الأصوات التي تورط الدين الإسلامي في كل شاردة وواردة تعسف بالدين وتفقده هيبته ووقاره.