يطل علينا شهر الخير رمضان، ونستعد لاستقباله بكل تقدير ومحبة، لأنه الشهر المغاير لكل شهور السنة، ولأننا نحمل في ذاكرتنا أياماً جميلة منذ كنا صغاراً ومدى هذا الحب مع هكذا شهر، فهو الذي علمنا المحبة بكل ما تعنيه، سواء للرب الذي خلقنا وجاء بنا إلى هذا العالم أو للوالدين سبب كل نجاحاتنا في هذه الحياة، وهم من تعبوا وكدوا وحزموا بطونهم ليطعمونا ويصلوا بنا إلى موانئ بعيدة وسط أمواج لا ترحم وعواصف لا تهدأ وأسماك جائعة تبحث عن طعم يسد جوعها، هو من زرع فينا المحبة بين كل طوائف أبناء «الفريج» وزملاء لنا في الفصل الدراسي و«ربع» في نفس «الفريق» نلعب معاً في فريق ونجتمع في المساء لنلعب «الصعقير» و«الخشيشة» و«الظلالوه» في كل «فرجان» البحرين من مدن وقرى، نعيش نفس المحبة ونتبادل نفس المشاعر والأكلات، فأنت تشاهد البنات والأولاد والأمهات يجولون في «فرجانهم» يتنقلون بين بيوتها يطرقون البيت تلو الآخر ويتبادلون الأطباق الرمضانية بقلوب ملؤها الحب والفرح.
يأتي هذا الشهر الفضيل ليعيدنا لأيام جميلة هي لن تعود بكل تأكيد، لأن الكثير من أهلها قد رحلوا وليجعلنا نردد «ألا ليت الشباب يعود يوماً لنخبره بما فعل المشيب»، بكل تأكيد ما الذي سأخبره وماذا سأترك لغيري ليسترسل في شكواه، أمور كثيرة لا نستذكرها إلا في مقدم هذا الشهر الفضيل الذي نتذكر فيه أيام الطفولة الجميلة الممزوجة بالبراءة والشقاوة معاً، فعلاً إنها أيام ذهبت سريعاً بكل حلاوتها، نعم ولم يتبقَ منها إلا المرارة، فلن نستطيع مهما حاولنا أن نعيد ولو جزءاً بسيطاً من تلك الليالي الجميلة.
أن تكون أنت يا صديقي وكل من عايشتهم بصباي كل أهل «الفريج» الذي تعلمت منه حروف المحبة وغاصت رجلي في بحره لأصطاد ما تنوع من الأسماك ودخلت «حظوره» بصفه شرعيه أو غير شرعيه، وتحولت في الكثير من المشاهد وإخواني أبناء «البحبوح» إلى لص شريف من اللصوص الصغار نجوب البحر بحثاً عن الأسماك، وبراً في «دواعيس الفريج» نشاكس بائع «الكباب» و«البقال» ونخطف منه ما تقع أيدينا عليه ونتسلى بعذاب «زري عتيج» بكل براءة، كنا نمضي أيامنا بألف خير رغم ما منحتنا إياه تلك اللحظات من أيام جميلة عشناها معاً نقلب بأوراق تأتي دائماً بالأخبار السعيدة لكنه حالنا في البحرين التي نتمنى أن تكون دائماً أم العالم والمحبة والبيت «الوسيع» الذي يسع كل أبنائه ليأتوه بالأخبار السعيدة، وعسى رمضان لهذه السنة أن يكون كفيلاً بنقل الأخبار التي بخلت علينا السنوات الماضية بإهدائنا إياها. عندما نتذكر مقدم رمضان تتباين لنا صور السهرات الجميلة والليالي التي تمتد إلى ساعات الفجر من السحور حتى صلاة الفجر، فليل رمضان عبادة وألعاب وتواصل بين الأهل والأقارب والأصدقاء، وهو اليوم تحول إلى زيارات للمجالس والسهرات في الخيم وتبادل الحوارات في قضايا الداخل والخارج والإكثار من متابعة السهرات التلفزيونية وبالتحديد الدراما في القنوات العربية التي اتخذت من شهر رمضان ملعباً رئيساً لها.
هذا الشهر هو الوحيد الذي يعيد لنا أياماً جميلة مسحت الآن من أجندة أيامنا التي تحولت إلى ألعاب إلكترونية، وحولت طبخات الأم والجدة إلى مطاعم «تيك أوي»، وصارت الطلبات فقط ما يحتويه «المنيو» وليس ما نشتهي أن تطبخه لنا الوالدة أو الجدة أو الزوجة، حتى «الغبقات» خلت تدريجياً من المقلي والمشوي والصالونة والمحمر من السمك، لأنه قد لا يكون متوفراً في السوق أو أن سعره أصبح خيالياً، والأدهى أن الكثير من «الربع» من الجيل الجديد لا يعشقون «الزفر» ولا رائحته في رمضان وأصبح بالنسبة لهم من المحرمات في هذا الشهر، وأمست «اللقيمات» معلبة و«الكباب» نفس الحال، وتوارى «قرص العقيلي» و«الخنفروش» صار مستورداً من السوق، و«خبز الرقاق» نجلبه من السوبرماركت بدون «حنوة» الوالدة عليها ألف رحمة، فلا «تاوة» ولا «سعف» ولا «تنور».. سبحان مغير الأحوال. فلا رمضان هو رمضان الذي تربينا في أحضانه، ولا هو في «سفرته» ولا «ألعابه» ولا زياراته ولا سحوره ولا استقباله ولا وداعه، ولم نعد نسمع الصغار كما كنا نغني «حياك الله يارمضان يابو القرع والبيديان»، فلم يتبقَ منه إلا اسمه وعباداته وصلواته، وحتى «المسحر» صار «تيك أوي» يجول الفرجان عن العين والنفس في «بيك آب» وكأنه «دي جي»، وصار مقدم رمضان عند الكثير من أهل البحرين قروضاً من أجل شراء ثلاجة جديدة و«فريزر» لتخزين اللحوم وتلفزيون جديد لمتابعة المسلسلات ومكيف لتجهيز الصالة وسجاد جديد لفرشها، والبعض قد طور المشروع ببناء صالة جديدة للفطور وتجمع الأهل وكأنهم كانوا يعيشون في الشارع، إذاً هكذا تحول استقبالنا البسيط لرمضان إلى استقبال مكلف وديون ستتواصل مع مصروفات العيد والإجازات والعودة للمدارس والله المستعان.. وعسى أن يبلغنا رمضان ويعيننا على صيامه وقيامه.
الرشفة الأخيرة
ككل عام من شهر رمضان الخير نودع أحبتنا القراء في «الديرة» ونتوقف عن التواصل معهم من خلال «ملفى الأياويد» على أن نعاود مد جسور المحبة والذكريات بعد إجازة عيد الفطر السعيد.
وكل عام والبحرين وأهلها وضيوفها ومحبوها بألف خير «وعساكم من عواده».