عكفت العديد من المصنفات الإسلامية على تفسير جانب من مفهوم الفتنة بأنه سمة لآخر الزمان. حيث تلتبس فيه الأمور على المسلمين وتكثر الابتلاءات ولا يعرف المرء كيف يهتدي للحق وكيف ينجو من الفتن المتلاطمة حوله.
والآيتان الثانية والثالثة من سورة العنكبوت تدلان على أن الفتنة سنة كونية تجري علينا كما جرت على الذين من قبلنا، يقول تعالى (الم (1) أَحسبَ الناسُ أَنْ يترَكوا أَنْ يقولوا آمنا وَهمْ لا يفتنونَ (2) وَلقدْ فتنا الذِينَ منْ قبلهمْ فليعلمنَّ اللهُ الذِينَ صدَقوا وَليعلمنَّ الكاذِبينَ (3)). ويفسر أكثر العلماء معنى الفتنة بأنها الاختبار والابتلاء الذي قد يواجهه المسلم ليمتحن الله ثباته على دينه وتمسكه بشريعته، ويستدلون على مقصد «التمحيص» الذي تهدف إليه الفتن والابتلاءات بالتفسير اللغوي لمعنى الفتنة، إذ تقول العرب «فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص من المشوب». فالفتنة جند من جنود الله يختبر به معدن الإيمان في قلب المسلم وحقيقة فهمه لدينه الحنيف.
والفرد المسلم قد يفتن بصور شتى في حياته كضياع ماله أو فقد حبيب أو ابتلاء شديد في الصحة والعمل، وغيرها. ولكن الأمة تمتحن في صيغتها الجمعية بصور مختلفة تتجاوز المحن الفردية المتعارف عليها.
فمن الفتن والمحن التي تمر بها أمة المسلمين اليوم هي حالة الضعف والهوان التي تعيشها بين الأمم. فبلاد المسلمين تصنف في ذيل قوائم التنمية العلمية والاقتصادية، وتقع على الهامش في مجال الاختراعات والإنجازات، وحركة إصدار الكتب وترجمتها في الوطن العربي مجتمعاً لا تساوي ربع إنتاج بعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا مثلاً. وعادة ما ينبري لنا من فوق المنابر من يهتف إن كل ذلك بسبب تركنا للإسلام وتخلينا عن الشريعة وقبولنا بغيرها أساساً للحكم والتعامل، فتشتد الفتنة في أعيننا حين نجد الغرب الصليبي والشرق الوثني هم الأكثر تقدماً وإبداعاً، بل.. وسعادة حسب بعض الاستبيانات. فكيف تكون أقطاب الحضارة «كافرة» بالأصالة، ونكون نحن مسلمين؛ ويجنون هم ثمار الدين ونقبع في حصاد «الكفر»؟.
وبمعزل عن علاقة الدين بالحياة التي قد تدخل فيها اجتهادات شتى، فإن الغرب والشرق الأدنى «الكافرين» اتبعا سبيلاً إسلامياً تخلينا نحن عنه، وهو الأخذ بالأسباب.. أسباب التقدم والتطور والحضارة والسعادة. فاجتهدوا في العلم والتزموا بالقوانين المنظمة لكافة شؤونهم. وتعايشوا واحترم بعضهم بعضاً، في الوقت الذي «نتنطع» نحن فيه بالأفضلية على كافة الخلق باختصاصنا بدين الله دون باقي البشر، وبقدرتنا على سيادة الكون فقط لأننا مسلمون. ومن وعى خطورة هذا المنهج من علماء المسلمين لم تفته الإشارة الفقهية إلى أن «ترك الأسباب معصية، والاعتماد عليها شرك».
المحنة الخطيرة الثانية التي يواجهها المسلمون اليوم هي محنة «الاقتتال» تحت راية «الله أكبر»، وهي محنة قديمة متجددة؛ منشؤها التفسيرات الفاسدة لمعنى الإسلام وتصنيف المسلمين. فطالما عرف التاريخ الإسلامي الفرق الدينية المنحرفة التي خرجت تكفر الآخرين وتستحل دماءهم. وأحد روافد هذا الفكر التفسيرات غير السوية للحديث النبوي الخاص بـ «الفرقة الناجية»، الذي استأثرت به كل جماعة لنفسها ونسبت الضلالة والفساد والكفر للآخر. فاليوم يخوض المسلمون حروباً في العراق وسوريا باسم الطائفة الناجية، ويفسق بعض المسلمين الآخرين باسم المذهب الفقهي الناجي، ونختصم ونتشاحن باسم الفتوى الناجية، ونحن في ذلك نخرج عما نهانا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع، حين قال «لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرِب بعضكم رِقابَ بعضٍ»، والآثار الإسلامية أجمعت أن الإسلام لن يغادر الأمة ولن يخرج من الأرض، ولكن الاقتتال معصية تخرج من الملة، وخصوصاً إذا كان الاقتتال من باب التكفير، لذلك نهانا النبي «ص» نهياًَ مغلظاً عن الاقتتال «وَليكنْ عبدَ اللهِ المقتولَ، وَلا يكنْ عبدَ اللهِ القاتلَ، فإِنَّ الرَّجلَ يكونُ في قبةِ الإِسلامِ، فيأْكلُ مالَ أَخيهِ، وَيسفكُ دَمهُ، وَيعصي رَبهُ، وَيكفرُ بِخالقهِ، وَتجبُ لهُ جهنمُ»،
فتن آخر الزمان هي ذاتها فتن أول الزمان، غير أننا قد درسنا الفتن الأولى حفظناها ولكننا لم نعها ولم نستلهم العبرة منها. لذلك مازال تاريخنا يعيد نفسه في بلادنا بتفاصيل معاصرة.