يوثق التاريخ دول المدينة التي كانت موجودة في حضارة الإغريق واليونان واستمرت إلى فترة أطول خلال الإمبراطورية الرومانية. ورغم أن هذه الظاهرة انتهت؛ إلا أن بعض الباحثين مازالوا يعتبرون بعض الدول من بقايا تلك الحقبة التاريخية، ومنها على سبيل المثال موناكو، وحتى التقليص الذي طرأ على سلطة الفاتيكان إلى أن صار كما هو عليه اليوم بعد اتفاقية لاتران عام 1929.
عملياً فإن دول المدينة انقرضت الآن، وإن كانت امتداداتها التاريخية لازالت باقية، ولكننا نتحدث اليوم عن شكل جديد من أشكال الدول قيد التشكل والتأسيس، وربما قد تكون مرحلة جديدة من تاريخ السياسة المقارنة على الأقل.
لم تظهر هذه الدول اليوم، ولكن يمكن متابعة مؤشراتها، والمطالبات الداعية لتأسيسها، فهي دول تقوم على أسس إثنو ـ طائفية بحيث تضم مجموعة من المكونات المتشابهة، وتنبذ المكونات المختلفة معها في شكل يرفض قبول الآخر، ويقوم على الإقصاء المعلن.
العراق وسوريا مثالان حيّان لهذه الظاهرة، فكثير من السوريين اليوم لا يؤمنون بإمكانية انتصار الثورة التي بدأت قبل أعوام، ولكنهم على قناعة أن الحل الأنسب للصراع الدائر هناك هو تقسيم الدولة إلى مجموعة من الأقاليم، فهناك الإقليم العلوي، والإقليم السني، والآخر إقليم كردي.
والوضع نفسه في العراق مع تصاعد تداعيات الثورة التي تقودها مجموعة من الأطراف والجماعات ضد نظام المالكي، ولا يمكن إنكار وجود اتجاه لدى العراقيين يرى أن مستقبل الدولة العراقية هو التفكك نحو عدة أقاليم، خاصة وأن الدستور الحالي يساعد على تحقيق هذا الهدف من الناحية القانونية. ولا يختلف التقسيم الذي يتصوره العراقيون عن ذلك التقسيم الذي يراه السوريون تجاه بلادهم من ثلاثة أقاليم سنية وشيعية وكردية.
اللافت والغريب، بل هو مفارقة في الحقيقة أن نزعات الانقسام والتقسيم في الشرق الأوسط تأتي في وقت تتزايد فيه أدوار الإعلام وشبكات الاتصال الاجتماعي التي قرّبت المجتمعات والشعوب، ولكن الحالة هنا مختلفة، فمع الاختلاف لا يمكن قبول الآخر بسبب المصالح السياسية وأجندتها.
هذه الرؤية هي التي تقودنا للحديث أكثر عن دول الأقاليم والتي لا يعرف مدى واقعية تنفيذها، وكيفية الوصول إليها من منظور غربي على الأقل. ولكن من الأهمية بمكان طرح جملة من الأسئلة التي لا تخلو من الفنتازيا تتعلق بكيفية إدارة العلاقات بين دول الأقاليم مستقبلاً، وتأثير دول الأقاليم على الدول المركبة الموجودة اليوم أو حتى الدول الواحدة المركزية والتي تجاورها جغرافياً؟