تروي كتب السيرة النبوية والتفاسير القرآنية أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المشركين في مكة سورة النجم حتى إذا وصل إلى قوله تعالى (أَزِفتِ الْآزِفةُ (57) ليسَ لها منْ دُونِ اللهِ كاشفةٌ (58) أَفمنْ هذَا الحدِيثِ تعجبونَ (59) وَتضحكونَ وَلا تبكونَ (60) وَأنتمْ سامدُونَ (61) فَاسجدُوا للهِ وَاعبدُوا (62)) سجد عليه الصلاة والسلام وسجد الناس مسلمين ومشركين، إلا رجلاً أخذ التراب فسجد عليه قيل إنه قتل كافراً.
وسجود المشركين للقرآن الذي ينكرون ما جاء فيه لم يمر دون أن يترك أثره في السيرة النبوية. إذ أوردت بعض كتب التفاسير أن سبب سجود المشركين للقرآن هو سماعهم ثناء خاصاً على آلهتهم التي يرون أنها تقربهم إلى الله وأنها تشفع لهم عنده، والزيادة التي يتردد إنها ذكرت في سورة النجم، ثم نسخت بعد ذلك، هي بعد قول الله تعالى (أَفَرأَيتمْ اللاتَ وَالعزَّى (19) وَمناةَ الثالثةَ الأُخرَى) (قيل) فقرأ النبي (ص) (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى)، فاستبشر مشركو قريش بذكر آلتهم وإثبات شفاعاتها فسجدوا مع النبي.
وانقسم الفقهاء والمفسرون حيال هذه القصة ثلاثة مذاهب؛ منهم من كذب وقوعها من حيث المبدأ، محتجاً أنها وردت عن روايات آحاد وأحاديث مرسلة لا ترقى لدرجة القوة، وأن سياق سورة النجم هو سياق توحيدي لا يمكن أن تتخلله آيات شركية. كما إن الله سبحانه وتعالى قد عصم النبي عن الخطأ أو الزيادة في القرآن الكريم تحديداً، بل وتوعده بالتهديد، في سورة الحاقة، إذ افترى على الله كذباً في القرآن (وَلَوْ تقوَّلَ علينا بعضَ الأقاوِيلِ (44) لأخذنا منهُ باليمينِ (45) ثمَّ لقطعنا منهُ الوَتينَ (46) فما منكمْ منْ أَحدٍ عنهُ حاجزِينَ (47))
والرأي الثاني للفقهاء والمفسرين أن الحادثة قد وقعت فعلاً وأن روايات الآحاد والأحاديث المرسلة يقوي بعضها بعضاً. وأن القصة هي تفسير لقول الله تعالى (وَما أَرْسلنا منْ قبلكَ منْ رَسولٍ وَلا نبيٍّ إِلا إِذَا تمنى أَلقى الشيطانُ في أُمنيتهِ فَينسخُ اللهُ ما يلقي الشيطانُ ثمَّ يحكمُ اللهُ آياتهِ وَاللهُ عليمٌ حكيمٌ) الحج: 52، حيث تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يذكر شيئاً يثير حفيظة المشركين على آلهتهم كي يؤمن له، وأن الشيطان ألقى تلك الزيادة في نفس النبي فذكرها كي يستميل المشركين، ثم نسخها الله تعالى من ضمن الآيات والسور التي نسخت.
والفريق الثالث أقر بوقوع القصة لكنه تأولها بعدة تأويلات، منها أن الآية في سورة الحج تنسب الزيادة للشيطان وليس للنبي. وأن مشركي قريش بعد أن استفاقوا من سجودهم وعجزوا عن تبرير اندهاشهم بالقرآن الكريم، افتروا على النبي بقصية الغرانيق، وبرروا سجودهم بأنه رضا بذكر آلتهم والثناء عليها في الآيات التي قيل إنها زيدت.
وقصة الغرانيق من القصص التي ثارت حولها شبهات كثيرة استغلت للطعن في الإسلام والقرآن، واستثمرها المستشرقون كثيراً ليثبتوا «أنسنة النص القرآني» ونسبته للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من نسبته إلى الله تعالى. وأياً كانت حيثيات القضية، فإن هذه القصة وغيرها من القصص التي يمكن دراستها بالمناهج النقدية الحديثة في تفسير القرآن والسيرة النبوية، وفهم التقاطعات والمسافات التي تضبط العلاقة بين النص القرآني وروايات السيرة النبوية وآراء المفسرين. ويمثل البحث فيها، وفي نظيراتها من القصص المشكل إثراءً للبعد الفلسفي والنفسي للدراسات القرآنية الحديثة. فالقرآن الكريم لا يمل حديثه، ولا يبلى جديدة.