مضى وقت طويل نزل فيه سقف التعبير الانتقادي في الأعمال الفنية وفي البرامج الحوارية في البحرين إلى مستوى غير مسبوق، فابتعدت الأعمال الدرامية عن مناقشة القضايا التي تمس الأداء الحكومي ومعاناة المواطنين من سوء الخدمات أو تأخرها ابتعاداً أخل بأحد أهم أدوار الإعلام والفن وبقية وسائل التعبير المشروعة.
فتخطتنا دول عرف عنها المنع والتقييد والحساسية المفرطة تجاه أي نقد على أداء الحكومة، وشاهدنا أعمالاً درامية وبرامج حوارية سعودية -على سبيل المثال- تعرضت لقضايا جدلية غاية في الحساسية وتعرضت سلباً لأداء حكومتها وناقشتها بكل شفافية ومستوى نقدي عالٍ جداً، حتى نالت نسبة مشاهدة كبيرة من باقي دول الخليج إعجاباً بها وإعجاباً بالروح الجديدة التي سمحت بارتفاع سقف النقد، ومثلها حدث في بقية دول الخليج التي حفلت تلفزيوناتها وخشبات مسرحها بإنتاج نقدي عالي النبرة يشتد في نقده إلى درجة السخرية المرة.
في حين تراجعت البحرين بشكل كبير فاختفت البرامج الحوارية الناقدة من على شاشة تلفزيون البحرين لفترة وابتعدت النصوص الدرامية عن القضايا الجدلية، فانخفض سقف التعبير إلى مستوى غير مسبوق أبعد المشاهد عن شاشة التلفزيون وعن المسرح.
الغريب أن يحدث هذا التراجع في الوقت الذي ارتفع فيه سقف التعبير خارج المؤسسات الرسمية حتى تخطى خارج نطاق الأدب والذوق والتربية وخارج نطاق الضوابط القانونية والعرف والقانون وتدنى الذوق العام حتى لم يتورع عن التصفيق لألفاظ لا تقال في حضور والديك ومع ذلك عد من قالها شاعراً أو شاعرة أو كاتباً أو ممثلاً أو ناشطاً أو أو!! وبدلاً من أن تنتهز الدولة هذه الفرصة لإعطاء فسحة أكبر كي تكون متنفساً وتسحب البساط وتعيده لنصابه، عادت الدولة لتضع وصايتها على أجهزتها بشكل خنقها وأفقدها دوراً في الوقت الذي شب فيه المجتمع عن الطوق وحطمه.
العملان الوحيدان اللذان أعطيا فسحة من التعبير لانتقاد الأداء الحكومي هما مسلسل «بوجليع» الكارتوني الذي عرض في رمضان، ومسرحية «أروح لمين» المعروضة حالياً على الصالة الثقافية، وهما عملان دراميان مسا أداء الحكومة بشكل مباشر ودون تلميح وبسقف عال دون رقابة ودون مقص، ونالتا إعجاباً ومتابعة افتقدتها الأعمال الدرامية منذ زمن طويل، فمنذ متى تملأ صالة المسرح كلها لعمل مسرحي بحريني لممثلين غير معروفين والعمل ليس مجانياً وتذاكر الصف الأمامي بخمسة عشر ديناراً؟ إنها ظاهرة تستحق أن ترصد.
ورغم ما شاب هذا النقد من مبالغة ومن تضخيم إلا أن للدراما تكنيكها الفني الذي يسلط الضوء على مواقع القصور من خلال تضخيمها وتناولها بأسلوب ساخر، وليس معلوماً إن كان هذان العملان استثناء ومرا هكذا بالصدفة بلا رؤية شاملة وسرعان ما سيعاد السقف لسابق عهده منخفضاً؟ أم أنها رؤية ثابتة وستنطلق بعدها بقية الأعمال الدرامية والبرامج الحوارية التي تخصص لتناول القضايا العامة وتشرح الأداء الحكومي بمشرطها الفني أو الحواري بسقف عالٍ؟ إنها تساؤلات تضاف إلى ما أثير من تساؤلات أخرى حول محاولة لتقييد الفضاء الإلكتروني لمنع ما سمي بمخاطر إثارة «السخط العام»؟
ما لم تكن هناك رؤية شاملة تقتنع بأنه مثلما أنه ليس هناك أداء حكومي كامل والكمال لله وحده، فإنه ليست هناك أعمال درامية كاملة ولن تكون هناك برامج حوارية كاملة والكمال لله وحده، لذا فإن سياسة انتظار وجود «الكاملين المكملين» من مقدمي برامج ومن ممثلين ومن مؤلفين حتى نفتح السقف ونسمح بتمرير الأعمال والبرامج، سياسة ستسبب العقم وتخنق الروح وفي النهاية سيقولون ما يريدون أن يقولوه ولن تستطيع الدولة منعه.
نصيحتي دعهم يعملون ودعهم يخطئون وسيصححون وسيكتسبون الخبرة والحديث للكل وزراء ومقدمي برامج وممثلين ومؤلفين، ولتتسع الصدور ولنتقبل أخطاء بعضنا بعضاً ولنقدر جهود بعضنا بعضاً.
وعلى وزارتي الإعلام والثقافة أن تدافعا عن حرية التعبير وعن السقف المطلوب لمواجهة هذه المرحلة، فتلك مهمة منوطة بهما، وعلى السادة الوزراء بالمقابل ألا يظنوا أن تلك الأعمال وتلك البرامج أداة في يد وزارتي الإعلام والثقافة للكيد بهما ولمحاربتهما أو لتقليل جهودهما، علينا تجاوز هذه المعادلة البالية فالزمن تخطاها بكثير والفضاء الإلكتروني اليوم مفتوح لكل مغرد ولكل ممثل ولكل مقدم برامج، فكلها دون استثناء أصبحت هي المسرح وهي التلفزيون وهي الإذاعة وهي الصحافة، تمنعه من هنا يفتح له الفضاء الأبواب من هناك.. نهاية وخلاصة القول أنهم سيقولون ما يريدون أن يقولوه وللدولة خياران، الأول أن تمنع وتصبح دولة قمعية متخلفة، والثاني أن تسمح على شاشاتها وعلى مسارحها ويقال عنها دولة حرة ديمقراطية وحكومة واثقة من أدائها.. ولكم الخيار.