مثلت قناة الجزيرة العنوان الأهم لمشروع السلطة القطرية ما بعد انقلاب 1994 في الدوحة، والذي أدخل فكراً سياسياً جديداً لم تشهده منطقة الخليج العربي سابقاً، ضارباً عرض الحائط بأهم القيم والموروثات التاريخية المتجذرة في المنطقة، مما شكل صدمة لنظم الحكم الكلاسيكية الراسخة في المنطقة، فظهر التباين واضحاً من خلال تحركات الدوحة والتي دفعت لتكون دولة قيادية تؤدي ما يطلب منها من أدوار؛ فتشعبت اهتماماتها وتدخلاتها إقليمياً وعالمياً محمية بالوفر الاقتصادي الكبير والانتشار الواسع الذي حققته الجزيرة.فنراها في أقصى جنوب الفلبين تفاوض جماعة أبو سياف، وصولاً إلى أعماق أفريقيا لتدفع ملايين الدولارات مناكفة لقوى سياسية إقليمية كان لها هيمنة وتأثير هناك، ولكن بقيت الفاجعة الكبرى بالنسبة للمجتمع الخليجي هي العلاقة الودودة بين الدوحة وتل أبيب من خلال محورين أساسيين؛ سياسي يستضيف رموز الكيان الصهيوني على أرض الدوحة، وإعلامي تمثل بظهور وجوه إسرائيلية سياسية وعسكرية وإعلامية ودخولها لكل بيت عربي عبر شاشة الجزيرة وبشكل شبه يومي.شكل الفشل الذي تعرضت له جماعات الإسلام السياسي في دول «الربيع العربي» الضربة القاصمة لمخططات الجزيرة والقوى الداعمة لها، ما جعلها تتخذ خطوات مرتبكة؛ مرة باتجاه التراجع ومرات كثيرة باتجاه مزيد من التصعيد.فبعد النشوة الكبيرة التي عاشتها الجزيرة ومن ورائها بفوز الإخوان المسلمين في الانتخابات المصرية، النيابية والرئاسية، تلقت أولى صدماتها بالخسارة الفادحة في ليبيا، والتي كان متوقعاً أن تكتسحها الجماعة، بناء على العداء التاريخي الكبير بينهم وبين النظام الليبي السابق، ولكن كانت الصدمة تكبر بعد كل استحقاق سياسي، حيث بدا أن الشعب الليبي محصن ضد حركات الإسلام السياسي وأن حالة التدين لدى المجتمع الليبي القبلي حالة فطرية ترفض التنظيم السياسي الديني.في تونس كانت الظروف مختلفة؛ حيث استطاع الإخوان ممثلين في حزب النهضة السير بين الألغام، فكان هناك تراجع وتقدم وتفاهمات مع التيارات السياسية الأخرى، وهو ما ترك تونس عرضة للجذب والشد، ولتكون أكثر دول «الربيع العربي» استقراراً، ولو بنسبة ما.القاصمة لمخططات الجزيرة كانت القاهرة بعد تحرك 30 يونيو، حيث قلبت كل الأوراق، وأصيب المشروع القطري – الإخواني بأكبر خيباته، فعمدت الجزيرة إلى كل الوسائل -الأخلاقية واللاأخلاقية- لمحاولة مسك زمام الأمور مرة ثانية، فتحولت لمتحدث رسمي لجماعة الإخوان المسلمين، وخصصت ساعات طويلة من البث للحديث عن ما سمته «الانقلاب العسكري» في مصر، واستضافت جميع المحللين والخبراء الذي يدفعون بهذا الاتجاه، عدا عن عشرات الشخصيات الإخوانية الذين استطاعوا الفرار من مصر بعد 30 يونيو، والذين لم يتركوا مصطلحاً سياسياً أو دينياً لم يستخدموه؛ إضافة إلى كم مذهل من البذاءات و«الردح»، كان من الأولى أن لا يظهر على شاشة قناة بحجم الجزيرة.وتحولت مهنية القناة من معايير دولية تحاول أن تحاكي كبرى المؤسسات الإعلامية العالمية، إلى محاولة مجارات بعض القنوات المحلية ومواقع الإنترنت التي لا ترقي أن يطلق عليها وسائل إعلامية، ودخلت الجزيرة معها في منافسة على كم «الردح» واستخدام للألفاظ السوقية.كل هذا الإصرار على استمرار الجزيرة رغم سقوطها المدوي يدل على أن إغلاقها أكثر صعوبة من افتتاحها قبل سنوات، نظراً لأن نهايتها سترمز إلى نهاية حقبة المشروع القطري، وهو أمر لا يشبه إلا عملية «تجرع السم» الذي لن تقدم عليه قطر.وعلى ما تقدم؛ فما هي مدى نجاعة خلق مشاريع رديفة أو بديلة مثل «العربي الجديد» وأخواتها؟ وما هي قدراتها على مواصلة حمل مشروع السلطة القطرية الذي لم يكتمل والذي تمثله الجزيرة؟ .. للحديث بقية