سعدت كثيراً بحضور الفعالية النضالية التي أقيمت في مركز عبدالرحمن كانو الثقافي تحت عنوان «غزة أرض الرباط»؛ تضامناً مع الشعب الفلسطيني في غزة. وقد شكلت الفعالية قيمة مضافة لتمسك الشعوب العربية بثوابتها القومية والوطنية ودعمها لقضاياها المصيرية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهذه القيمة تنطلق من كون الثقافة ليست اجتراراً معرفياً فحسب، بل هي أداة من أدوات النضال وسلاح فعال من أسلحة المقاومة.
تم الإعداد للفعالية بمنهجية تنم عن وعي وإدراك من القائمين على المركز بمفهوم الثقافة ومدلولاته العميقة وغاياتها البعيدة، فلم تكتس الفعالية بالطابع (المهرجاني) المقتصر على الهتافات ورفع الشعارات والأعلام والخطابات النارية والوقوف حداداً وإكباراً، بل استحضرت الفعالية مكونات القضية الفلسطينية وإشكالاتها وأنبتت جذورها المترسخة في التربة البحرينية عبر طرح فكري وفني هادف ومؤثر؛ تأسس على فكرة أن الجميع هنا يقفون على مسافة «تحمل معها كل الذل وكل الخوف من أن يصبحوا غزة أخرى». وهي الجملة الجوهرية التي افتتح بها الأستاذ مبارك العطوي، نائب رئيس مجلس إدارة المركز، كلمته وافتتح بها الفعالية.
تضمنت فقرات الفعالية كلمة لمستشار السفارة الفلسطينية في البحرين السيد محمد الترك. وكان أهم ما جاء في الكلمة التأكيد على (وحدة) الفصائل الفلسطينية في الأزمة الحالية وفتح خطوط التواصل بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن والدول العربية، ومنها البحرين التي زارها مؤخراً، لتمثيل موقف موحد. (الوحدة.. التوحد.. الموقف المشترك) هي البنى الفكرية والحركية التي يجري ضربها من خلال المشروع الاستعماري الجديد المضاد للمشروع الثقافي العروبي. وتقليص القضية الفلسطينية من قضية إسلامية عربية إلى قضية خاصة بالشعب الفلسطيني ثم اختزالها في قصف غزة وفتح معبر رفح هي مشروع (التشظي) الجديد لقضايانا المصيرية. وكل تلك المشاريع يصعب مقاومتها بالسلاح قبل محاربتها فكرياً وثقافياً وإعادة تثبيت أنساقنا الثقافية المشتركة والمجمع عليها كحاجز منيع يصد الأنساق الفكرية التفتيتية والمتشظية التي بدأت تتسرب بسلاسة مخيفة إلى بنانا الفكرية.
كما اشتملت فعالية مركز أحمد كانو الثقافية على كلمة للأستاذ نجيب فريجي مدير المركز الإعلامي بالأمم المتحدة في منطقة الخليج؛ الذي أعاد بكلمته الجدلية الدائمة حول دور المنظمة الأممية في القضية الفلسطينية وعجزها الدائم عن إدانة السلوك الصهيوني الإرهابي وتقاعسها عن حماية الشعب الفلسطيني. وفشل المنظمة في مساندة كافة قضايانا هو في الحقيقة عجز عربي عن التعبير عن الذات بصيغة قانونية دولية. وفشل في التواجد الدولي وهزيمة للتأثير الإعلامي العربي، الحكومي والشعبي، في الرأي العالمي. وتلك ساحة ثقافية قاحلة لم يتمكن العرب بعد من الوصول إليها واستصلاحها وغرس قضاياهم بدمائهم التي فاضت ولم تطرح انتصاراً حقيقياً.
أما الكلمة الثاقبة التي ألقاها الدكتور عبدالستار الراوي، مستشار الجمعية العربية لحقوق الإنسان، فأعادت إحياء الوعي بحقيقة المشروع الصهيوني الذي استمد بناه الأيديولوجية والشرعية من الأساطير القديمة التي تستحضر دائماً فكرة (القتل) أداةً من أدوات بناء الدولة. وكانت كلمة تستحق محاضرة في حد ذاتها، إذ إن المشروع الصهيوني تمكن في المرحلة الأخيرة من ترويج فكرة (الشعب الطبيعي) المهدد بالخطر من ميليشيا مسلحة؛ كحالة توصيفية لطبيعة الصراع في فلسطين المحتلة، تشتيتاً لفكرة (الشعب المغتصب) الذي هو حقيقة التواجد الصهيوني في فلسطين.
ولم يغب الفن والأدب اللذان هما بوابة التأثير الوجداني والمحرك العاطفي لقضايا الشعوب واللغة التي يجمع عليها المختلفون، حضور الفنان سلمان زيمان من عقد الثمانيات عائداً على متن (البوم) من رحلة غوص صيفية حارقة ليهدي فلسطين أصدافاً ومرجاناً ولآلئ خليجية. سلمان زيمان حفيد نهام عتيق قالت أنغامه وأوتاره: فلسطين كانت ولاتزال في قلب الموقعات البحرينية الخالدة. وجزء أصيل من التراث الفني الخليجي ومن التزام الفنان البحريني بقضاياه الوطنية والقومية. أما نجوم الشعر في تلك الليلة فلم يخب نور كلماتهم وألق مشاعرهم. الشعر كان هاتف الاتصال بإخواننا في فلسطين ناجاهم شعراؤنا (حسن كمال. عيسى هجرس، حيدر النجم) بعثوا لهم تقديرنا واعتذارنا واعترافنا بوقوفهم في وجه العواصف الدامية نيابة عنا.
الثقافة ليست إحصاء للكتب والمراجع واجتراراً للمعلومات، الثقافة بناء ممنهج له مرجعيات وأهداف وهياكل تركيبية مترابطة متراصة متفرعة تمد غصونها نحو غايات متفق عليها، الثقافة خطة تفكير وعمل، الثقافة نضال ودفاع عن قضايانا الوطنية والقومية بأدوات متعددة كل أداة منها تكتسح موقعاً معيناً تغير في اتجاهات وتعيد تفكيك مكوناته وتركيبها وفق منهجية وغائية تعكس هوية الجماعة وتعبر عن آمالها وأشواقها. وقد نجح مركز عبدالرحمن كانو الثقافي والقائمون عليه بتقديم طرح ثقافي مختزل للعدوان الهمجي على غزة في ليلة تضامنية كان حقها أن تتفرع إلى ليالٍ، وحق القضية الفلسطينية أن تطرح تفاصيلها في استفاضتها وفي امتداداتها الرأسية والعمودية.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}