كثيرة هي التعريفات التي تتناول عملية «التحريض»، لكنها تتشارك في وصفه بأنه «خلق لكرة الجريمة وخلق التصميم عليها في نفس الجاني بأي وسيلة كانت».
وتتفق معظم التشريعات والقوانين المعنية بالتحريض على أن «المحرض» يتساوى مع من تم تحريضه في الفعل وبالتالي في العقوبة.
ولا تختلف قوانين البحرين عن معظم القوانين العالمية بشأن التحريض، لكن ما هو ملموس على أرض الواقع هو وجود نوع من التساهل في هذه المسألة مع حالات معينة، وإن تمت المحاسبة فإنه يلاحظ أنها متفاوتة ولا تطال من يثبت عليه التحريض بالأدلة والشواهد. وهنا مبعث الاستغراب، باعتبار أننا كدولة نقول دائماً بأن الجميع سواسية أمام القانون، وأن من يخرق القوانين لابد أن يتعرض للمساءلة.
بعض الدول حاولت تخفيف الإجراءات المشددة تجاه التحريض، لكن ذلك عاد عليها بنتائج سلبية، مثل بريطانيا التي اكتوت في حالات معينة بنار التحريض وتحشيد الناس ضد القانون.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية التي يعتبرها البعض «منبع الحريات» فإنه لا تساهل على الإطلاق بشأن عملية التحريض، خاصة إن هي مست الأمن القومي، وتصل عقوبات السجن بشأنها إلى 20 عاماً.
في أمريكا يتم التعامل مع التحريض بنفس مستوى التعامل مع نصوص قوانين الإرهاب، والتشديد إن كانت بسعي إثارة التمرد على الحكومة، هكذا وبصراحة النص.
التحريض في المفهوم الأمريكي يدخل صاحبه في خانة «الخيانة»، وفي خال تصرف المواطن الأمريكي بطريقة تتعارض مع العلاقات الودية مع دولة أخرى فهنا تستوجب محاكمته بغض النظر عن المكان الذي ارتكب فيه فعل التحريض. كما إن «خرق الولاء» يعتبر جريمة لا يتم التسامح فيها. حتى الأنشطة النقابية لا تسامح فيها إن هي سعت لمناهضة الحكومة أو دعت للإطاحة بها، وإثارة الفتنة في المفهوم الأمريكي تدخل فيه كل أنواع التحريض كتابة أو قولاً أو تشجيع العنف أو الدعوة إليه.
نورد أمريكا كمثال صريح لأنها الطرف الذي يستقوي به بعض من لدينا ممن بات التحريض هواية دائمة لهم، وبات تهديد الأمن القومي ورقة الابتزاز والمساومة التي يلعبون بها.
نص المادة 44 من قانون العقوبات البحريني تقول: «يعد شريكاً في الجريمة من حرض على ارتكابها فوقعت بناء على هذا التحريض». وهناك شواهد الجميع يعرفها، لكن السؤال هنا المعني بهل تم تطبيق القانون عليها أم لا؟!
المادة 156 من قانون العقوبات جرمت التحريض وجعلت عقاباً له السجن «حتى إذا لم يترتب على هذا التحريض أثر». وهنا نضع نقطة نهاية السطر ولكم الحكم.
أي خبير في علم القانون يعرف تماماً بأن التشريعات تعتبر التحريض جريمة مستقلة بحد ذاتها، وعليه يساءل المحرض سواء نجح تحرضه أو فشل. وأنه لا جدوى عن عدول المحرض عما حرض عليه «أي أن التحريض لا يسقط»، وأن التحريض على الجناية معاقب عليه بصورة أقسى من التحريض على الجنح والمخالفات، وهنا يتعرض المحرض لعقوبة الجريمة نفسها التي أراد أن تقترف وعليه يعامل كما لو كان فاعل الجريمة.
المشكلة هنا فيمن يطوع النصوص القانونية بما يخدمه ويفسرها على هواه، بالتالي من جانبه غفور رحيم ومن جانب غيره شديد العقاب، وهذا ملاحظ بالأخص من جانب ممارسي التحريض الذي يرونه تعبيراً عن الرأي بينما هو يتحول لممارسة شنيعة باعتماده على الإرهاب والتطاول على القانون.
وهنا نورد نصوصاً صدرت عن الإمام الشيرازي الذي بنفسه دعا بشدة لتجريم التحريض، حيث يعرف التحريض –كما ورد نص في موقعه- على أنه: التحريض كل نشاط عمدي يهدف به صاحبه إلى دفع شخص ما إلى ارتكاب فعل يؤدي إلى وقوع جريمة، فالمحرض قد يفوق في الخطورة الفاعل للجريمة، خاصة في الأحوال التي يكون فيها فاعل الجريمة ليس إلا منفذاً «حسن النية» أو يكون حاله غير ذي أهلية جنائية، حيث يمكن اعتبار المحرض في هذه الحالة هو الرأس المفكر، والعقل المدبر للجريمة، فالمحرض يحمل أو يحاول أن يحمل شخصاً مسؤولاً على ارتكاب جريمة ويعاقب على تحريضه وإن لم يفض التحريض إلى أية نتيجة وذلك لأن تبعية المحرض مستقلة عن تبعة الذي وقع عليه التحريض، ولا يقاس التحريض على كمه بل على نوعه أيضاً، فالتحريض على ارتكاب جريمة ضد مدنيين عزل يختلف في حجمه بالإجرام على العصيان المدني على سبيل المثال، مع أن كليهما يعد جريمة».
ويعتبر الشيرازي أن الهجوم على المستشفيات بدفع صبيان وشباب مشحونين طائفياً وعقائدياً هي أكثر أنواع التحريض بشاعة وانعداماً للشعور للإنساني، ويوصي بالتالي بإغلاق الفضائيات التي تحرض على العنف، وتقديم من تسبب بالقتل عن طريق التحريض للمحاكم الخاصة.
تجب الإشارة هنا إلى أن كلام الشيرازي ركز على تجريم الأفعال التي تصدر ممن يعتبرهم فرقائه، رغم أنه يقر بأن القوانين الدولية تجرم التحريض وتعاقب ممارسه بنفس عقوبة فاعله.
الفكرة من كل هذا تكمن في بيان الاتفاق الدولي على التحريض كممارسة يجب أن يطبق القانون عليها بلا تعاون أو تخاذل، وهنا يقفز السؤال للواجهة: هل نحن نطبق القانون بحذافير نصوصه على من يمارس التحريض، أم أن التطبيق يتم حسب الرغبة؟!
الواقع يكشف بين طياته إجابة مؤلمة لهذا السؤال.