لم نسمع رجل دين قاد معركة أو شارك في مظاهرة أو تحدث في أوضاع سياسية إلا في البحرين، إنهم بعض رجال الدين الذين لبسوا العباءة ووضع العمامة، وقال أنا شيخ دين لي حق في أن أقول ما أقول وأمشي البيت بعدها دون أن يطالني سؤال ولا استدعاء، ولأني رجل لي حصانة تمنع المساس بي وشعبية تثور لأجلي، وقد تدمر البلد لو طالني استدعاء أو أرسل لي كتاب، هذا حال بعض مساجد البحرين اليوم، والتي أصبحت منبراً للفتوى السياسية وإعلان الحرب على الدولة وتحريضاً على الإرهاب.
وهنا نسأل؛ متى كانت الديمقراطية جزءاً من المدارس الدينية؟ وفي أي عهد من العهود الإسلامية استخدم هذا المصطلح؟ فها هي الخلافات الكبرى منذ عهد الخلفاء الراشدين حتى الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وهي الدول التي اتسم تاريخها بالأمجاد والفتوحات، دول فتحت الشرق والغرب دون أن يدور فيها مصطلح «حكم الشعب بنفسه» أو «حضارة عصرية» أو «دساتير غربية»، وذلك عندما اتخذت هذه الدول كتاب الله وسنة نبيه شريعة ومنهاجاً، وكان للحكام دورهم السياسي ولعلماء الدين دورهم في البحث والتنقيب والإرشاد والتأديب، دون أن يتدخلوا في أمور سياسية، بل كانت جهودهم منكبة على شرح كتاب الله ونشر الوعي الديني بين الناس، هذا دور رجل الدين في عهد الفتوحات والأمجاد.
ولو رجعنا إلى دور رجال الدين في هذه الدول لم نجد منهم من ألب على دولة ولا على حاكم ولا والٍ، وليس منهم من قاد مسيرة ولا مظاهرات، ولا تدخل في سياسة الدولة الداخلية ولا الخارجية، بل كان ذلك مسؤولية الحاكم التي لا يرجع فيها إلى عالم دين ولم يستفتِ فيها قاضياً ولا فاضياً، لذلك اشتغل رجال الدين بالدين، واشتغل رجال السياسة بالسياسة، فالحاكم لا ينفع لدور رجل الدين ورجل الدين لا ينفع لدور قائد جيش أو والٍ على إمارة، وهكذا استطاعت هذه الدول أن تمتد نفوذها وتتوسع بفتوحات، وأن تكون خلافة قوية استمرت لقرون.
أما ما يقوم به رجال الدين في البحرين من تدخل في أمور سياسية فهو خروج عن دور رجل الدين، لذلك فيقع عليه ما يقع على المواطن العادي، وذلك حين اختار هذا الدور لنفسه، إذ إنه لا يمكن أن يركب رجل دين المنبر ويفتي بسفك الدماء أو يتحدث في شؤون الدولة ويتدخل في عمل مؤسساتها، بل ويتدخل حتى في الهندسة والطب والتعليم، ويتدخل في شؤون الوزارات والمؤسسات ويتكلم عن البنية التحتية والمؤسسات الاقتصادية، كأنه أصبح خبيراً بدءاً من شؤون رياض الأطفال حتى المؤسسة العسكرية، وليتها تصب في خير البلاد أو نصيحة وإصلاح تحث الناس على الحفاظ على الأمانة واتقاء حدود الله؛ بل هي تأجيج وتحريض على الدولة، و لتعميم فشل الدولة في نفوس المواطنين حتى يتأففوا منها ويثوروا عليها.
وبالفعل يخرجون بعدها من المساجد وقد شحنت نفوسهم حقداً وكراهية، فيخرجون ثائرين يحرقون باسم الدين والإيمان الذي ربطه رجل الدين بمحاربة الدولة وإسقاط نظامها، والنتيجة كما شاهدناها سقوط الضحايا من مواطنين ووافدين ورجال دين، وتعطيل المصالح وتأخير المعاملات وتضيع الأمانات، إلى أن تسلم هذه المؤسسات لرجل الدين الذي يبسط البساط لمن يشاء ويسحبه ممن يشاء، وذلك حسب رضاه وحسب ما يراه، فهذه العقلية التي تأتمر ليس بكتاب الله ولا بسنة رسوله، وإنما بتعليمات تأتيها من الخارج، وها نحن نرى فتوى خامنئي بتنحية المالكي عن رئاسة الوزراء العراقي بعد أن قام بتعيينه، إذاً هي الدولة التي يريدونها في البحرين، تعيين وتنحٍ حسب ما يراه المرشد الإيراني الذي يتبع نفس الخطاب، وذلك حين جعل من العباءة والعمامة صفة للحاكم العادل الذي يأتمر بأمره وتلزم طاعته وأن من يخالفه يخالف الله ورسوله، لذلك اشتغل رجال الدين بالسياسة لأنهم وكلاء سياسيون باسم الدين الذي تؤسس عليه دولة الفقيه.
إذاً الدولة مطالبة اليوم بمنع الخطباء الذين يحرضون على استباحة الدماء، والذين يدعون لعصيان الدولة والخروج عن طاعة ولي الأمر، والذين يحرضون المواطنين على الخروج في المظاهرات بدعوى انتزاع الحكم من الدولة، ليكونوا هم مصدر للسلطات، كما يزعم رجل الدين الذي سيستحوذ على كل السلطات متى تحقق له ذلك ثم يهشهم كما يهش الراعي الغنم.
إن الدعوى التي تدعيها الوفاق بأن «أي محاولات لاستهداف الحقوق الدينية لأي مكون هو محل رفض قاطع، وأنها تكميم لأفواه الشخصيات والنشطاء والمؤسسات» نقول لها؛ إذاً فليخرج هؤلاء من عباءة الدين ويلبسوا البدلة و»النكتاي» ويعلنوا أنفسهم نشطاء وسياسيين، ويتركوا المنابر لرجال الدين الذين يحفظون كتاب الله ويفقهون سنة نبيه حتى يزيلوا الغمامة عن عيون الناس ويعلموهم حرمة الفساد في الأرض وعقابه، ويعلموهم أن الخروج عن الجماعة وعن طاعة ولي الأمر هي من أكبر درجات الفساد، وذلك كي يصلح المجتمع ويعيد بناءه بعد أن هدمه أعداء الدولة الذين لبسوا لباس الدين كي يسقطوا الدولة في يد العدو الصفوي الأزلي، والذي أسقط الخلافات الإسلامية، وهاهو اليوم يسعى إلى نهاية ما تبقى منها.