في الدول المتخلفة هنالك أكثر من ألف سلطة وسلطة تحكم وتدير المجتمع، وكل سلطة من تلكم السلطات لها سطوتها وقدرتها في تحريك الثابت وتثبيت المتحرك، ولربما تصل القوة عند بعض من تلك السلطات المتعددة أن تقوم بتزييف وتشويه الحقائق، حتى العلمية والرياضية منها، فهي باختصار أداة صارمة لتزييف الوعي الإنساني على مر العصور.
في الدول المتحضرة والقوية والفاعلة والمتقدمة هنالك سلطة واحدة، هي سلطة القانون، وهي السلطة التي يعيش كل فراد من أفراد المجتمع تحت مظلتها بأمن وأمان وطمأنينة، وهي الحكم في كل مفاصل الحياة وهي القاضي والحاكم والمنجي عند تداخل الأهواء والمصالح وانفلات الغرائز، وهذه السلطة القانونية باختصار شديد تعتبر مرادفاً عملياً للعدالة.
في مجتمعاتنا المتأخرة عن كل شيء لا يمكنك أن تتجاوز أي سلطة من السلطات التي تمتلك سطوة الواقع بكل تفاصيله، سواء على مستوى الكلمة أو على مستوى الفعل، فالكل يرزح تحت نير بطشها وانحيازها القاسي نحو العرق والدم والمذهب والقبيلة والدين، وما عدا ذلك يظل الفرد «الإنسان الوهمي» في ظل هذه المجتمعات خائفاً من قمع كل تلك السلطات جميعها وفي كل الأحوال، ومن هنا يكون الفرد في مجتمعات السلطات المتوحشة جباناً وغير فاعل على الإطلاق.
في الوقت الذي تحكم سلطة القانون كل المجتمعات المتحضرة منذ قرون، نجد أن الفرد العربي تحكمه مجموعة غريبة ومتناقضة من السلطات المختلفة والمتخلفة، فنحن لدينا سلطة الأب والأسرة والرجل «الذكر»، ولدينا كذلك سلطة المجتمع باختلاف تلاوينها كسلطة العادات والتقاليد وسلطة «العيب»، ولدينا أيضاً سلطة الدين ورجالاته على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، كما لدينا سلطة الدولة بكل أشكالها. هذه السلطات لو امتزجت كلها لا تعادل ولو للحظة واحدة سلطة القانون الذي يجب أن يكون سيد السلطات.
حين يتخلص الفرد العربي من سلطة الدولة تكبسه سلطة المجتمع، وحين يفر هارباً من سلطة المجتمع تلجمه سلطة رجال الدين، وحين يحاول التخلص من قيد كل هذه السلطات تقعده سلطة العائلة، ولربما تلجمه سلطة العادات والتقاليد السخيفة في المجتمعات المتخلفة والمتخمة بالجهل من أن يعبر عن رأيه أو يفصح عن شخصيته.
حسب التصنيف الواقعي لكل هذه السلطات المزمجرة في مجتمعاتنا المتخلفة نجد أن لكل سلطة من هذه السلطات قوتها وجبروتها وأدواتها في تسيير الواقع، حتى ينقلب الإنسان في هذه المجتمعات إلى ما يشبه «البهيمة» في جموع القطيع، ومن هنا كلما حاول الإنسان أن يتحرر من قيد العبودية والرق إلى فضاءات الحرية الإنسانية يجد أمامه ألف سور وسور، كلها تجبره على الرجوع إلى مجتمع القطيع ليظل فرداً خائفاً من كل شيء، ليس لديه ثقة في ذاته أو حتى بمن يحيطونه من بقية أفراد القطيع البشري.
ليس بكثرة السلطات وقسوتها تنهض المجتمعات الإنسانية المتحضرة، بل بإعطائها المزيد من الحرية والكرامة، فالمجتمعات الناجزة هي المجتمعات المشحونة بعبق الحرية، بدءاً من سلطة المنزل وانتهاء بسلطة الدولة، أما المجتمعات الخائفة فهي لا تعدو كونها مجتمعات أشبه بالأنعام التي لا تهتدي للنور سبيلاً، وهي أقرب للفناء منها لرسم الحياة، فهل سيأتي اليوم الذي ستسقط فيه سلطاتنا كلها لتنسحق تحت سلطة القانون؟ أم سيظل هذا قدرنا إلى أبد الآبدين؟ كل هذا بأيدينا، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.