تمضي الأيام والسنون، وترحل أجيال وتدفن معها أسرار وشهود، وهذا هو حال أمتنا منذ عقود وقرون. في كل مرحلة عصيبة تمر بها أمتنا ينبري الكل بالتحليل والتنظير وأجزم أن جلنا يغرد معذوراً خارج السرب، وفي كل مرة تساق الأمة مكرهة لمعركة هي ليست معركتها، لكنها تجري في ساحتها، تسوق لنا في بادئ الأمر بأنها شر مستطر يداهم المنطقة والأمة، وأن المصالح تلتقي لدفعه، ثم بعد أن تضع الحرب أوزارها تغيب الشخوص وتطمس الملفات وتحرق النصوص.
ولا أظن أن المسرحية الجديدة تختلف عن سابقاتها بشيء سوى تبادل الأدوار وبعض التعديل على المتن والحوار، شعوبنا وأولي الأمر منا الكل يدين أشكال الإرهاب ويمقته ويسعون جاهدين لمكافحته وتجفيف منابعه.
تم تحشيد القوى لخمسين دولة، وأرغم سليل الخلافة التركي بالالتحاق به على مضض، والعدد مرشح للزيادة، ولا يجتمع هكذا حشد إلا لحرب عالمية كارثية كبرى، والأمر فيه شك وريبة، فليس من المعقول أن تجتمع كل هذه الأساطيل للقضاء على عشرين ألفاً أو يزيدون من تنظيم داعش، أو ما يسمى بجند الدولة الإسلامية، أو سمه كما شئت، ويغض الطرف عن العشرات من المنظمات والمليشيات الإرهابية الأخرى.
والغرابة الأكثر أن كل ذلك يتم دون أي قرار أو تفويض من مجلس الأمن، وفعلاً باشرت بعض هذه الدول بمهامها من الدعم اللوجستي وتنفيذ المئات من المهمات القتالية والاستطلاعية، لكن دون أن تحقق شيئاً أو تحرر متراً واحداً من الأراضي الشاسعة التي تبسط تلك المجاميع المتطرفة عليها نفوذها. بل ما يزيد المراقب حيرة ودهشة أن تلك المجاميع تنفذ بدقة مخططها وتقضم المدن الواحدة تلو الأخرى وبنفس سيناريو مدينة الموصل العراقية الصابرة المحتسبة، والتي كانت قدحة الشرارة الأولى في 10 يوليو من هذا العام، والتي مازال أمرها لغزاً يكتنفه الغموض.
فبالأمس خرجت هيت عن السيطرة، وهي من كبريات مدن الأنبار، ومنها سيتم الزحف لكل ربوعها، وحزام بغداد أحكم تطويقه، وحسب تصريح وزير الدفاع الأمريكي أنه بات وشيكاً اختراقها، وأن الآلاف من الخلايا النائمة فيها تنتظر ساعة الصفر، وربما نفيق غداً وقد رفعت راياتهم في أعلى مبانيها. كما أحكم الطوق على مدينة عين العرب (كوباني) واشتد القتال فيها وقد تسقط قبل أن يجف حبر مقالتنا، تلك المدينة السورية التي يقطنها 400 ألف نسمة من الأكراد والمحاذية لتركيا، والتي وضعت أقطاب الحكومة التركية في وضع لا تحسدوا عليه.
اصدقونا القول مرة ولا تقتلونا حسرة؛ أليس من حقنا أن نطلع على جزء من الحقائق والتحالفات في أمر جد خطير فيه تقرير مصيرنا نكون أو لا نكون؟
إن تلك الدول لم تجتمع نزهة أو عبثاً، وربما شماعة داعش هي بداية العرض المشوق، وما ستتلوه من مشاهد وأحداث رهيبة ستطول وتتعدد فصولها، ستسمر المشاهد في مقعده ولا تترك له الخيار إلا في بلع ما تبقى من ريقه وطقطقة فقرات عنقه المتشنج الذي بالكاد يحمل رأسه المثقل بالهموم.. والقادم من الأيام حبلى بالمفاجآت.