أثارت شخصية جمال عبدالناصر الكثير من الاهتمام لإنجازاته ونكساته الكبيرة، وهذا شأن الشخصيات الكبيرة التي تركت تراثاً ولعبت أدواراً في تاريخ الشعوب. عبدالناصر كان له رفاق منهم أنور السادات وعبدالحكيم عامر، وهما شخصيتان أثارتا الكثير من الاهتمام بالنقد أو بالإشادة، ومن هذا لمنطلق تابعت كتابات عديدة عن هذه الشخصيات، لكنني أركز على أهم شخصيتين؛ عبدالناصر والسادات، وأترك ما يقال عن عبدالحكيم لمناسبة أخرى، وعبرت عن هذه الأفكار في رسالة بعثت بها لأحد الشخصيات الناصرية، وهو الأستاذ سامي شرف، الذي عمل بإخلاص مع عبدالناصر ومازال وفياً له ولعهده وإن كان مبتعداً عن السياسة ودهاليزها منذ أن أقيل في عصر السادات مع عدد آخر ممن أطلق عليهم مراكز القوى.
وفيما يلي بعضاً مما كتبه في الرسالة إلى الأستاذ سامي شرف؛ اسمح لي أن أختلف مع كثير من الرسائل ومحتوياتها التي ترد منكم وهي تحويل لآراء وكتابات آخرين في معظمها، ونقطة الاختلاف أنني ألاحظ أن كثيراً من هذه الكتابات يعيش أصحابها في الماضي؛ وعصر عبدالناصر ومزاياه وعصر السادات وعيوبه الشيطانية، بل يتهمه البعض بالعمالة.
أعتقد أن هذا النمط الفكري لا ينبغي أن نعيش فيه، إنه عصر مضى وأخشى أن أكرر ما هو معروف، ومن البديهيات أن الماضي لا ولن يعود لذلك فعند الكتابة عنه ينبغي أن نأخذ في الحسبان عدة أمور:
الأول: الماضي لن يعود؛ ويجدر بنا أن نتركه للمؤرخين عندما تظهر وثائق التاريخ الصحيحة، وهي نادرة، لأنه حتى من كتبوا تلك الوثائق كانت لهم رؤاهم الشخصية وعيوبهم المنهجية وقصور معلوماتهم.
والثاني: ينبغي أن نعيش المستقبل ولا نعيش الماضي ونكرره ونلوك الأقوال ونشتم هذا ونمدح ذاك، كما كان الشعراء في العصور القديمة، وحقاً قال عبدالله العصيمي، الشاعر والأديب السعودي، إن العرب ظاهرة صوتية، لذلك حتى المعلقات والشعر الذي قيل عنه ديوان العرب وتاريخهم عليه الكثير من التساؤلات، فالسلوك والأقوال البشرية موضع دراسة نقدية دائماً وتختلف بشأنها الآراء. وهذا أحد أسرار عظمة الأمم والشعوب وسر تقدمها، أما إذا نظرنا لكل عمل بشري وأضفينا عليه القداسة فهذا طريق الجمود الفكري ومدعاة للتخلف السياسي.
الثالث: إن كل ابن آدم خطاء، وأشير هنا إلى قول السيد المسيح عندما انتقد بعض تلامذته لقاءه مع إحدى العاهرات، فقال «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وأذكر قول الله سبحانه وتعالى (فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يصفح الله عنكم).
الرابع: إن تاريخ مصر يعتمد ليس على تصورات من كانوا طرفاً في صناعته رغم دورهم العظيم أو غير ذلك، فهم فقط جزء من المعلومات، لكن الأعمال ليست فقط بالنيات وإنما العبرة بالنتائج، ولعلني أشير إلى واقعة صلح الحديبية واختلاف رأي الصحابة حولها.
والخامس: إن أعمال السياسة والسلوك البشري هي دائماً موضع اختلاف، وهذا يدعونا للتأكيد على أهمية أن نعيش المستقبل وليس الماضي الذي يجب أن يقتصر على أخذ العبرة.
إنني أربأ بأي وطني مخلص وشريف مهما كان موقعه أو رأيه الوقوع في هذا المطب، ويروى أن الإمام علي بن أبي طالب خاطب أصحابه يوماً ما بحكمة بالغة بقوله «لا تجبروا أبناءكم أن يكون مثلكم فهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، والعبرة هنا أن الماضي نأخذ فقط منه العبرة ولا ينبغي أن نجلد أنفسنا أو نجلد الآخرين لأنهم لم يفعلوا ما يتماشى مع رؤيتنا.
ما أريد قوله إنني أدعو للنظر للإمام والبناء على الإيجابيات بدلاً من الحديث دائماً عن الماضي والتركيز على إيجابيات من نحب وسلبيات من نكره، وهذا ليست فقط قضية وطنية وإنما قضية أخلاقية وحقاً قال الشاعر:
إن عين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساوي
رغم انتمائي للفكر الناصري وحبي لعبد الناصر كزعيم مخلص ومواطن شريف لا أرى فيه نبياً أو إماماً معصوماً، فقد سعى لبناء دولة بمفهوم حديث ولتحرير أمة، بل أسهم في تحرير قارة، لكن له أخطاءه، وهي أخطاء بشرية يمكن لأي إنسان أن يرتكبها مهما كانت منزلته وعلمه ومركزه.
العبرة هنا بالطبيعة البشرية وبالبشر الذي يخطئ ويصيب ولا يقلل ذلك من قيمته، كما إن آدم عليه السلام أخطأ أكبر خطيئة وسجلتها عليه الكتب السماوية بما في ذلك القرآن، لكنه عندما استغفر ربه غفر له.
وإذا كان عبدالناصر أخطأ بصداقته لعبدالحكيم عامر رغم كل سلبياته التي جلبت كثيراً من الكوارث التي أصابت الدولة، وكذلك صداقته أو بالأحرى تسامحه مع بعض قيادات مجلس الثورة، فهذا كله ينظر إليه في سياق البشرية والضعف الإنساني، وإذا كان السادات أخطأ في الصلح مع إسرائيل من وجهة نظر من يرون ذلك فهذا تقديره، وأنا لست من أنصار ذلك ولا من دعاة هذا الجلد المستمر له أو هذا الطعن المستمر في قيادات مصرية لها تاريخها وقامتها وإنجازاتها وأيضاً أخطاؤها، لأن السادات أحد قادة الثورة وأكثر من كان يؤيد عبدالناصر، لذلك ظل بجواره طوال حياته وهو الذي عينه نائباً له، والناصريون بعد ذلك اختاروا السادات لأنهم تنازعوا فيما بينهم على السلطة، وهذا من سمات البشر؛ فقد تنازع الصحابة الكرام على السلطة بعد وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وترتب على ذلك هذا الانقسام الكبير في صفوف المسلمين، والذي لانزال نعيشه وندفع ثمنه إلى اليوم.
وأنا بتواضع أربأ بمن أحب أن يقع في سياق مثل هذا الاندفاع، وأرجوه رجاء خاصاً أن ينصح من يلوكون الكلام الكثير قدحاً أو مدحاً أن يفكروا فيما ينفع مصر المستقبل وينفع عالمنا العربي الذي كان حلم عبدالناصر أن يوحد صفوفه، بدلاً من اجترار الذكريات، وإنما يمكن، بل ينبغي، أن يسجل هؤلاء مذكراتهم وأدوارهم، إذا كانت لهم أدوار تستحق الذكر، لكي يتم الاستفادة بها للتاريخ وللمجتمع، وسوف يحكم التاريخ يوماً ما على مدى صدق هذه الرؤى أو عدم صدقها، ومدى ملاءمة هذا القرار أو عدمه للموقف المطروح آنذاك بتحليل علمي موضوعي بعيداً عن الانحيازات البشرية التقليدية.
أعيد التأكيد على الحق في الاختلاف وضرورة أن نتعلم جميعاً هذا الحق ونحترمه ونعمل في ظله حتى تتقدم أمتنا، وأيضاً للاختلاف مع البعض من الأصدقاء في المنهج وأسلوب التفكير، وأقول كما ذكرت أكثر من مرة يكفي عبدالناصر أنه مات ولم يترك ثروة سوى بضع جنيهات، ولم يكن ممن يحرصون على شهواتهم، بل كان عفاً شريفاً، لكن بعض قراراته السياسية بصداقة عبدالحكيم أو غيره أو بطلب سحب قوات الأمم المتحدة دون استعداد كاف للمواجهة أدى لما سمي بالنكسة، وهي أكبر هزيمة في تاريخ مصر الحديث، والتي عمل عبدالناصر من أجل التغلب عليها حتى وفاته.