كثرت في الأعوام الأخيرة أمراض غريبة ضربت هذه الأمة، حتى أصبح من الصعب تعدادها فكيف بمعالجتها؟ فأمراض المسلمين اليوم فاقت أنفاسهم ومشاربهم، ولم يعد بالإمكان أن نحصر الأوبئة التي ضربت عمق واقعنا القلق، فأصابته في مقتل.
إن من أبرز أمراض أمتنا، هو فيما يتعلق بعلوم الشريعة وقضايا الإفتاء والدعوة والوعظ والخطابة الدينية، وحين نتكلم عن هذه المسائل الخطيرة التي تمس مسيرة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في عصرنا الراهن، فإننا نشمل بحديثنا هذا كل المذاهب والتوجهات والمدارس الإسلامية، ولا يمكن أن نخص مذهباً بعينه، لأن هذه الأزمة الثقافية والدينية تغلغلت في أوساط كل المذاهب، حتى ولو تفاوتت حدتها أو خطورتها من مدرسة دينية إلى مدرسة دينية أخرى.
ما يمكن أن نلاحظه هنا ومن خلال التجارب العملية للمذاهب الإسلامية على صعيد الإفتاء والدعوة والخطاب الديني، هو التوغل في قضايا الإفتاء تحديداً، والتطرف فيما يتعلق بالخطاب الإسلامي من جهة أخرى، ومن هنا يمكننا الوقوف على أبرز عوامل هذا العنف الرمزي والأخلاقي والفكري، ألا وهي مسألة تصدي الشباب اليافع لكل هذه القضايا الحساسة والمصيرية التي تتطلب في الأصل أن يكون المتصدون لها هم أصحاب الحكمة والخبرة.
كلنا يعلم أن مرحلة الشباب في الغالب الأعم هي مرحلة ملتهبة وحماسية ومندفعة، ولا يمكن أن تناط مسألة الإفتاء إلى هذه الشريحة مهما بلغوا من العلم درجات، خصوصاً في القضايا التي تحتاج إلى إعمال العقل والنظر في ظروف الواقع أكثر من الإفتاء المجرد، كالقضايا المتعلقة بالسياسة والحرب والجهاد والدماء وحفظ الأنفس، هذه القضايا المصيرية الحساسة جداً لا يمكن أن يقودها الشباب اليافع من طلبة العلوم الدينية، بل تحتاج لمن يتصدى لها أن يكون من كبار العلماء والفقهاء، ومن أصحاب الخبرة والحكمة والدراية.
إن من أشد الأخطاء والأخطار التي مارستها السلطات الدينية والرسمية في عالمنا الإسلامي هو تشجيعها صغار السن من طلبة العلوم الدينية والشريعة على الإفتاء في كل شيء، بدءاً من الوضوء وانتهاء بالجهاد، فسخروا لهم كل الأجواء الممكنة للإفتاء، ومكنوهم كذلك عبر القنوات الإعلامية وطباعة الكتب الدينية والمنشورات، في بث أرائهم السياسية على شكل فتاوى دينية مقدسة تلزم العوام باتباعها، ومن هنا حلت الكارثة.
بعد تمكين الشباب اليافع للتصدي لمراكز التبليغ والدعوة والإفتاء في عالمنا الإسلامي رأينا العجب العجاب من الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن جهة أخرى رأينا الكثير من شبابنا يذهبون إلى القتال في معارك سياسية ودموية تخدم العدو أكثر مما تخدم الدين، وعليه خسرت هذه الأمة في الأعوام الأخيرة عشرات الآلاف من الشباب في معارك طاحنة مجنونة، أما فيما يتعلق بمسائل الإفتاء فإننا أصبحنا أضحوكة في عيون الآخرين، وفي كلتا الحالتين أساء هؤلاء الشباب للإسلام أكثر مما أساء إليه أعداؤه.
السلطات الرسمية تتحمل جزءاً من هذه الأخطاء والأخطار، والسلطات الدينية تتحمل جزءاً أكبر منها، أما مجتمعاتنا غير «المفلترة»، والتي لا تحمل القدر الكافي من الرشد فإنها تتحمل الجزء الذي يتعلق بقضايا الوعي والتسليم لجماعات الإفتاء والجهاد والتكفير، والتي نسميها جهلاً بجماعات الدعوة والإفتاء وغيرها من اللبوسات التي لا تناسب سوى العلماء الأفذاذ من أبناء هذه الأمة.
إن غياب علماء الدين الكبار من المشهد الحالي وانحسار دورهم وعدم إعطائهم الفرصة الكافية والقدر المتاح لاستلام مراكز التبليغ والفتوى للعمل فيها وفق الشريعة الإسلامية السمحاء، كل ذلك وأكثر مكن الشباب لاستلام هذا الدور الحساس، فأضاعوا أنفسهم وأضاعوا معهم مجهودات كل الشباب.
أنصاف رجال دين من صغار السن يتصدرون الواقع ويتصدون للإفتاء، وأشباه علماء دين من كبار السن -وإن كانوا قلائل- يتصدون لقضايا الجهاد في العالم. هذا المشهد يفضي أن جعل هذه الأمة تموج في عاصفة هوجاء وبحر لجي، لا يمكن لنا أن نتنبأ بواقعها فضلاً عن مستقبلها، فهلا رفعنا أيدي صغارنا عن الدين العظيم؟ أم أننا سننتظر الكارثة تكبر؟
- إضاءة..
قال جمال الدين الأفغاني: «الجاهل الحي ميت، والعالم الميت حي».