السؤال الذي نطرحه؛ هل تسمح أمريكا أو بريطانيا أو أية دولة أوروبية بتطبيق هذه النظريات والمفاهيم والأساليب في بلادها؟ أم أنها ابتكرتها فقط للتصدير للشرق الأوسط وأوروبا الشرقية ودول آسيوية وأفريقية، بينما تقف الدول الغريبة بالمرصاد لمن يسعى لتطبيق هذه النظريات على أصحابها.
ولعله من غرائب الأمور أن الكونغرس الأمريكي أصبح هو البرلمان العالمي الذي يشرع لمختلف الدول، رغم أن الشعب الأمريكي فقط هو الذي انتخبه، وليس شعوب العالم. ولعلنا نستدل على ذلك ببعض الأمثلة مثل تشريع معاداة السامية، وفرضه وإصدار تقارير سنوية بشأنه من وزارة الخارجية الأمريكية، وتشريع إنشاء لجنة الحريات الدينية، وهي لجنة أنشأها الكونغرس الأمريكي لتتولى مراقبة الحريات الدينية في مختلف دول العالم، باستثناء دولتين هما الولايات المتحدة وإسرائيل. وتصدر تقاريرها التي يتم استخدامها ضد مختلف الدول، وهكذا تعزز دور القوة المهيمنة الواحدة. وحقاً المقولة المشهورة «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» سواء كانت هذه السلطة في إطار الدولة الواحدة، أو في إطار النظام الدولي الذي لم يتبلور بصورة قانونية موحدة حتى الآن وهو ما يستدعي الدعوة والعمل الجاد لإقامة نظم عالمي جديد على أساس تعدد الأقطاب وليس هيمنة القطب الواحد.
هذه بعض نماذج من حالات بناء الدول في أمريكا وأوروبا وغيرها. ونماذج من تدمير الدول في الشرق الأوسط وغيرها. فهل يعود الوعي لشعوبنا العربية والإسلامية؟ أم سيظل الوعي مفقوداً ولن يعود، وإنما نتباكى عليه كما فعل الكاتب الكبير توفيق الحكيم في روايته «عودة الوعي»، الذي ظل مسلوباً منه طوال حكم الزعيم جمال عبدالناصر، في حين أنه سبق وكتب رواية «عودة الروح» وتحدث عن مفهوم الزعيم الذي تجسد في جمال عبدالناصر بعد ذلك بأكثر من قرنين من الزمان.
إن الحيرة تملؤنا ويثور لدينا التساؤل إذا كان المثقفون الكبار مثل توفيق الحكيم فقدوا الوعي فما بال المواطنين العاديين أمثالنا؟! اللهم أعد لنا الوعي السليم، وألهمنا السير على المبادئ القانونية والسياسية الصحيحة، وأبعدنا عن نظريات وممارسات تدمير الدول. ومن الضروري أن نتكاتف معاً، لإعادة بناء الدول والأمم في المنطقة التي دمرتها نظريات الفوضى الخلاقة، وهي الشرق الأوسط العريض، ونظرية صراع الحضارات وغيرها من النظريات التي صدرت لنا لكي نستهلكها، ولم يستفد منها أصحابها أو أن يطبقوها في بلادهم التي حماها القانون الصحيح والشعب الواعي، والنخب السياسية والثقافية والأكاديمية ذات الرؤية السليمة. ونتساءل عن دور النخب السياسية والمفكرين العرب الذين قال عنهم عالم الاجتماع السياسي المغربي عبدالله العروي في العديد من كتبه بأنهم قصروا في مهمتهم المقدسة، وهي مهمة الحفاظ على أوطانهم وذلك لقيامهم بالتحريض ضد أنظمتهم السياسية بدلاً من السعي لتطويرها بأساليب سلمية تدريجية كما حدث ويحدث في أوروبا وأمريكا.
أما كثير من مثقفينا اليساريين فقد تحولوا فجأة للدعاية لحقوق الإنسان والشفافية، وبعض مثقفينا القوميين تحولوا فجأة إلى دعاة للطائفية وتمزيق الأوطان. وهكذا لا ندري هل حقاً نحن نقترب من يوم القيامة التي من علاماتها أن يصبح المرء الحكيم حيران حيث يختلط الحابل بالنابل، والخطأ بالصواب.
إننا ندعو لبعض العقلانية والواقعية لبعض مثقفينا القوميين واليساريين الذين غيروا توجهاتهم بعد تراجع المفهوم القومي والمفاهيم اليسارية الشيوعية وصعود فكرة نهاية العالم ونهاية الدولة وانتصار الرأسمالية، نقول للجميع إن هذه النظريات عبرت عن الفكر المحافظ في النظام الرأسمالي وعن تطلعات البعض للهيمنة ليس فقط على القرن الحالي بل والقرون القادمة. نقول للجميع إن قليلاً من الواقعية والعقلانية وليس المثالية اليوتوبية أو مفاهيم ما وراء الدولة الوطنية والتي تؤدي لتدمير المفهوم الوطني للدولة وتجزئتها في منطقتنا، بل وتدميرها نقول إن هذا يمثل خطورة بالغة على مستقبل الأجيال القادمة وعليهم أن يتسلحوا بالفكر السياسي الحديث والممارسات السياسية الحديثة بدلاً من الاعتماد علي نظريات مستوردة يتم التدريب عليها والترويج لها من منظمات تحمل أسماء جميلة وليس كذلك في حقيقتها أو تعبر عن نظريات قديمة تجاوزها الزمن ولعل هذا هو من وسائل الاستعمار الحديث في القرن الحادي والعشرين.
ختاماً نستذكر مقولتين مهمتين؛ الأولى منسوبة إلى أم آخر الخلفاء المسلمين في الأندلس، عندما بكى الخليفة عند سقوط غرناطة آخر معاقل ملكه، فقالت له: «ابك كالنساء على ملك لم تصنه كالرجال»، مع كل الاحترام للمرأة ودورها.
المقولة الثانية أعلنها شاعر العرب الحديث نزار قباني في قصيدته المشهورة بعد وفاة جمال عبدالناصر عام 1970 إثر هزيمة عام 1967. ثم حرب أيلول بين الأردن والفصائل الفلسطينية في سبتمبر 1970، وكان عنوان القصيدة «قتلوك يا آخر الأنبياء» وعبدالناصر لم يكن نبياً ولا رسولاً، ولكنه كان زعيماً سياسياً قومياً صاحب رؤية لتطوير المنطقة العربية وتوحيدها. لكن تكالب عليه أعداء الداخل والخارج لإفشال مشروعه القومي، وانتقل لرحمة الله في لحظة فارقة في تاريخ مصر والأمة العربية، ونتساءل أين نحن الآن من فلسفة هدم الدول والتي نشهد من خلالها تحول دول مثل ليبيا وسوريا والعراق إلى دول فاشلة، وربما البقية تأتي بعد أن كانت دولاً لها كيان موضع احترام رغم ما عانته من ديكتاتورية ظالمة.
وها هي دول مثل مصر تواجه تحديات جساماً ولو تدخل الشعب مدعوماً من قواته المسلحة لكان الأمر أكثر خطورة، وها هي اليمن تكاد تتحول إلى دولة فاشلة ويبقي بصيص الأمل قائماً بوجود دول خليجية مهمة مثل السعودية والإمارات وأشقائهما من دول مجلس التعاون الأخرى مهما كانت وجهة نظر البعض تجاهها ومهما كانت الآراء تختلف تجاه بعض سياساتها، يكفي أنها في مصاف الدول الأولى في معايير التنمية البشرية في تقارير الأمم المتحدة، ويكفي أنها تقدم المساعدات للدول الأخرى حتى تقف على أقدامها ثابتة صامدة، ويكفي ما تحقق من تطور واضح وملموس في البنية الأساسية والبنية التعليمية والبنية الصحية وغيرها من المجالات وليس ذلك آخر المطاف، فالكمال لله وحده.
أما المسيرة البشرية فهي تسير نحو التقدم والرقي وتحافظ على كيان دولها وشعوبها إذا أدرك المثقفون وصناع القرار إلى أي اتجاه يسر العالم؛ هل نحو التمزق والتفرق على أساس عرقي أو ديني أو طائفي، أم أنه يسير نحو التعاون والتنسيق والتكامل والتوحد بغض النظر عن التنافس والخلافات بين الدول، ولنا في أوروبا أسوة حسنة، كما لنا في أن الولايات المتحدة التي تضم خمسين ولاية بها حوالي 350 مليوناً في دولة واحدة ذات أعراق وديانات وطوائف مختلفة ولكن يجمع بينها جميعاً الأمل في مستقبل أفضل.