وزير إماراتي تساءل قبل حين عما إذا كان بالإمكــان ركــن السياســة والأيديولوجيـــا جانباً لعامين أو ثلاثة واستبدالهما بالعلم والتكنولوجيا والتقنية ونقيس بعد تلك المدة حالنا. سؤال مهم ربما لا يمكن ترجمته إلى واقع بشكل دقيق باعتبار أن السياسة تظل في كل الأحوال جزءاً من حياتنا إلا أن الأمر يظل مثيراً وقابلاً أيضاً للتجربة وللتقييم.
البعض سيقول إن هذه التجربة ربما كان ممكناً إجراؤها في بعض الدول التي لم تفعل السياسة فيها فعلها، لكن من الصعب تطبيقها في دول أخرى كالبحرين مثلاً التي تشرّب الناس فيها السياسة حتى صارت جزءاً أساساً من إيقاع حياتهم، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي شهدوا فيها ولادة المشروع الإصلاحي لجلالة الملك وميثاق العمـــل الوطني والتعديلات الدستوريـــة وحزمة القرارات والقوانين المنظمة للحياة السياسية، وشهدوا كذلك الأحداث التي تسببت في التأثير على الصف واللحمة الوطنية وأوجدت شرخاً عميقاً في المجتمع يصعب إصلاحه خارج إطار السياسة.
نعم؛ السياسة صارت جزءاً من حياتنا في البحرين بل لعله من المثير للدهشة اليوم اكتشاف بحريني فوق العاشرة لا يتحدث في السياسة ولا ينشغل بها، فالسياسة صارت في دمنا جميعاً. لكن هذا أيضاً يفترض ألا يكون مانعاً من دخول التجربة التي اقترحها الوزير الإماراتي ربما من باب انتقاد مسألة الانشغال بالسياسة والاشتغال بها. لنعتبرها مثل دعوة تحدي الثلج التي لم يتأخر الكثيرون عن الدخول فيها بصب دلو مليء بالماء المثلج على رؤوسهم وتصوير أنفسهم.
في اعتقادي أن البحرين يمكن أن تدخل هذه التجربة لو أرادت، بل لعل دخولها يكون سبباً في تجاوز ما حل بها وبأهلها، فما سينتج عن ابتعادهم عن السياسة لسنتين مثلاً كفيل بأن يقنعهم بأنه لا خير في السياسة. لكن هل يتم هذا بقرار من رأس الدولة؟ أم بقرار من ممثلي الشعب في المجلس النيابي الجديد؟ أم عبر استفتاء شعبي يتبين من خلاله أن الشعب راغب في دخول هذه التجربة ومصمم عليها؟
الأمر ممكن، فلا شيء مستحيل، ولكن لا بد من التهيئة له أولاً، فلا يكفي أنه حاجة ولا يكفي القول إن شعب البحرين قادر على تحدي المستحيل، فهل بيننا من يمكن أن يقود هذه الدعوة ويقنع الجميع بها لندخل في التجربة؟ إن واحداً من الأمور التي تسببت في كثير مما نعاني منه اليوم هو أن الجميع من دون استثناء صار ناشطاً سياسياً وصار له رأي وموقف سواء من خلال الجمعية السياسية التي ينتمي إليها أو يناصرها أو منفرداً (للتأكد من هذا جرب أن تعلن عن أمر ما في التويتر أو تبدي رأياً وانظر التعليقات لتعرف أن الجميع أقحم نفسه في السياسة وصار مهووساً بها، بل صار لمن ليس في العين شيء أتباع ومؤيدون).
لنتصور مجلساً نيابياً يحرم على نفسه الانشغال بالسياسة ويتفرغ للمشروعات والقوانيـــــن الاقتصاديـــــة والاجتماعيـــــة والمعيشية، ولنتصور الجمعيات السياسية وقد اتخذت قراراً بتعطيل نشاطها السياسي وتفرغت للملفات غير السياسية وعلى الخصوص الاقتصادية، ولنتصور أن الجميع أعلن تجميد نشاطه السياسي وتفرغ للاهتمام بالعلم والتكنولوجيا والتقنية والاقتصاد وكل نشاط يمكن أن يعود بالنفع على الوطن والمواطنين ويحسن من الأمور المعيشية.
اثنا عشر عاماً هي عمر المجلس النيابي انشغل فيها الجميع بالسياسة وأهملوا الملفات الأخرى فلم ينتجوا مفيداً يذكر. لنجرب أن نعكس المسألة فندعو المجلس الجديد ليهتم بالملفات الأخرى ويبتعد عن السياسة لسنتين لا أكثر وننظر النتيجة.
الوزير الإماراتي بدا بتساؤله متفائلاً، لم يكن يتحدث عن البحرين، ولكن ينبغي أن نتفاءل ونقول إن هذه التجربة يمكن أن توصلنا إلى مفيد وتحل مشكلاتنا