سنقرع الجرس للمرة الألف -ربما- إذ خلال أكثر من عشر سنوات ونحن نتحدث عن هذا الموضوع ولا أحد يعيره أي اهتمام، نعم لا اهتمام، وإلا لكانت النتائج مغايرة.
وبغض النظر عما حصل من «فزعة» واستنفار «مؤقت» (نعم مؤقت) أواخر العام الماضي، إلا أن الموضوع بات يتحول إلى أمر «مسيء» للبحرين أكثر منه داعم لمشروعها الإصلاحي وأكثر منه معزز للأدوات الإصلاحية.
نعم، أتحدث عن تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية للمرة الألف، وسبق قبل أسبوعين أن كتبنا ونبهنا بأن تقريراً جديداً سيصدر بعد أيام معدودة، ونحن مازلنا لم نعرف ماذا آل إليه مصير تقرير العام الماضي الذي أقلها شهد تحركاً بشكل ما بخلاف سابقيه التقارير التسعة أو الثمانية (ضاعت الحسبة)، إذ هذه لم تشهد سوى استخدامات نيابية للاستعراض على صفحات الجرائد ثم وضعت على الرفوف وفي الأدراج.
أعرف أن الكلام الصريح مزعج للبعض، لكن على من يريد تحريك الأمور وتصحيح الأوضاع أن ينزل إلى أرض الواقع ويرى حقيقة ما يحصل. إذ شخصياً أشك شكاً قاطعاً بأن هذا التعامل مع نتيجة تقارير الرقابة المالية والإدارية من قبل جميع الأطراف تعامل كان متوقعاً حصوله حينما أنشئ الديوان وبدأ ممارسة أعماله، نعم أشك بقوة، إذ لو استقرأنا المستقبل وتوقعنا أن هذا سيحصل، وأن هكذا سيتم التعامل مع هذه التقارير «الغنية» بالتجاوزات وأشكال الفساد الإداري والمالي، لكان -وللأسف- عدم إنشاء الديوان وعدم إصدار التقارير أفضل و«أبرك».
أقول ذلك لأننا إن كنا نتفاخر -وخاصة في الإعلام الخارجي وفي الدول الأجنبية- بأن من خطوات الإصلاح المؤثرة التي اتخذتها مملكة البحرين هي إنشاء ديوان الرقابة المالية وإصدار هذه التقارير الهامة، نعم كنا نتفاخر بأنها خطوة رائدة وأن هناك أقلها رادعاً أمام من تسول له نفسه التطاول على المال العام أو التجاوز إدارياً.
لكن المشكلة اليوم تكمن في الاصطدام بالواقع، إذ لو جاء لي أي شخص وقال لي في محاولة لبيان خطوات الإصلاح والتصحيح الحاصلة بأنهم يمتلكون ديواناً للرقابة المالية والإدارية وأن هناك سنوياً تقريراً يفصل فيه كل تجاوز بما يشكل أصلاً «وثيقة إدانة» للجهات والمسؤولين المعنيين، فإنني على الفور سأسأله: «وكم قضية تعاملت الجهات المسؤولة معها؟! وكم مسؤولاً حوكم أو أقيل أو سجن؟! وكم وزيراً طار؟! وكم مسؤولاً تغير؟!».
وبناء على هذه التساؤلات، ماذا ستكون الإجابة يا سادة يا كرام؟! «سمعونا وارفعوا الصوت رجاء! الإجابة: صفر!» وحينما نقول صفراً فإننا نتحدث على أصعدة عدة وأهمها بأنه طوال أحد عشر عاماً من عمل ديوان الرقابة لم يتغير أي وزير أو مسؤول أو يحاسب بناء على ما ورد في التقارير. لم تنشر صحفنا أخباراً على غرار «إقالة الوزير الفلاني بسبب تجاوزات مالية وإدارية وثقها ديوان الرقابة»، أو «القضاء يحكم بسجن المسؤول الفلاني على خلفية قضية اختلاس بحسب إثبات تقرير ديوان الرقابة» إلى غيرها من عناوين رنانة يمكن أن توضع بسهولة.
النتيجة لا شيء يا جماعة، وحتى لو كانت هناك حالات معدودة، فهي أصلاً لا تحتسب حتى نسبة مؤثرة من مجموع القضايا والحالات الموثقة.
من يلام؟! وهو سؤال فصصناه كثيراً لأن كل جهة تلقي باللائمة على شقيقتها. فأصحاب البهرج الإعلامي من النواب قالوا الديوان بعد إصرارهم لثلاثة فصول تشريعية على أنهم أصحاب الحق في الرقابة والمساءلة وطرح الثقة، لكن اكتشفوا أن «اللبس أكبر منهم» فألقوا باللوم على ديوان الرقابة وطالبوا بأن يحيل هو القضايا للمحاكم. طيب والديوان ماذا ينتظر؟! تعديل لائحته أو منحه الضوء الأخضر للإحالة؟! وحتى لو منح ذلك، فالناس ستبدأ بالتساؤل إن كان التعامل مع القضايا سيكون على حد المساواة، ففي بعض القضايا، المسؤولية ملقاة على عاتق وزير أو وكيل وبعضهم من عوائل وبعضهم أصحاب نفوذ!
طيب، سنترك اللوم، وسنقول ألا يفترض بأن الحراك الذي حصل من جانب السلطة التنفيذية أواخر العام الماضي أن يتعاظم ويكون بشكل أقوى؟! فوالله هي كارثة فعلية حينما يتم سؤالنا عن عدد القضايا التي اتخذت فيها إجراءات بناء على تقارير ديوان الرقابة. فالأرقام محرجة، وحتى لو قيل بأنها قضايا محدودة فإن عدد حجم التقارير المتضخم سنوياً وعدد الصفحات المئوية لا تتسق منطقياً مع حجم القضايا.
هناك من يظن بأنه بناء على تقارير ديوان الرقابة يفترض أن يتم التعامل مع التقرير وكأنه تعامل مع قضايا جنائية، وأنه يجب أن تكون هناك محاسبة فورية عاجلة بأسلوب «ضرب الأعناق» وكأننا في حلبات مصارعة في زمن الرومان!
حتى هذا المفهوم خاطئ، إذ التقارير لم توجد ليطالب الناس بمصارعات وكأنهم «يطلبون دم»، أو بمعادلة «يا تقطعون الرؤوس يا ما سويتوا شيء». لكن سنبرر للناس هذا الفهم والوعي لأن السكوت لسنوات على ما تتضمنه التقارير دون إجراءات مؤثرة تدفع الناس للتذمر والتقليل من شأن أي تحرك وتشكك في جدية وجدوى إنشاء مثل هذه الكيانات.
من قلب مواطن مخلص ناصح أقول: زاد عدد التقارير، زادت الصفحات، وتكدست النسخ، وحتى الآن لا إجراءات (لن نقول صارمة بل منطقية بديهية) اتخذت بهدف أقلها تنبيه الناس لوجود تعامل مع ما يورد. كثرة هذه التقارير دون وجود نسبة وتناسب رقمية بين القضايا وبين التعامل معها والمحاسبة، أمور تحول التقارير من أداة خادمة لعملية التصحيح في البلد إلى أدوات تسيء للبلد باعتبارها توثيقاً للأخطاء لا يقابلها أي تصحيح أو تحرك جدي.
بسبب سوء التعامل وانعدام الجدية، هذه التقارير تحولت للأسف من «نعمة» إلى «نقمة!».